19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

إنسان تصادف مثله مرة واحدة في الحياة

إنسان تصادف مثله مرة واحدة في الحياة

أربكني إسلوبه الإقتحامي ، كان مندفعا بلا حواجز وكأنه يعرفني منذ زمن طويل ، بسط روحه وعقله كي يسمعني ويساعدني ، في حينها كنا نخاف من عناصر مخابرات نظام صدام التي كثفت تواجدها امام مكتب الأمم المتحدة في العاصمة الأردنية  عمان ، لكنه لم يدع لي أي شك في كونه  إنسانا نبيلا فاجأني بإسلوبه الإحتوائي ألأبوي .. ثم إستدركت وتذكرت اني أيضأ أحمل مشاعر الأبوة  نحو الناس بغض النظر عن أعمارهم ، لكن لم أكن إفتحاميا مثله ، كنت أخاف من ردة فعلهم السلبية بحكم العقلية العراقية – العربية التي تحركها مقولات من قبيل (( من يتدخل فيما لايعنيه .. يأتيه الرد بما لا يرضيه )) ولايفرقون مابين المبادرات الإنسانية  ، والتدخل في حياة الآخرين ، وربما إحد دوافعي في الكتابة هي روح الشعور بالمسؤولية الأبوية التي تجعلني أطرح الأفكار والمقترحات التي أعتقد بفائدتها .
 
وكي أوقف حماسته وإندفاعه  للإطلاع على أحوالي .. سألته :
– ممكن نتعرف على حضرتك ؟
– أنا خالد مروان بحار سابق .. وسجين سابق أيضا بتهمة التذمر من نظام صدام ، وجئت لطلب اللجوء لدى مكتب الأمم المتحدة .
ثم عاود إهتمامه الأبوي وطرح الأسئلة وإقتراح بعض الحلول علها تساعدني .. شيئا فشيا أصبحت  مبهورا بذلك الإنسان ، من أين له كل تلك الطاقة للإهتمام والتفكير بالناس ، وأي مبدأ إنساني عظيم يحركه لمشاركة الآخرين همومهم ، وكنت حينها أتهرب من التحليل المنطقي لظروفي ، فالمنطق كان مدمرا بالنسبة لأوهامي وأحلامي ، وأسلمت نفسي للإتكال على الأقدار والتمسك  بالآية القرآنية (( قل لن يصيبنا .. إلا ما كتب الله لنا )) كان خالد يتجاوز هذه القناعة ويبدأ بشرح الحلول العقلانية لأزماتنا .
مع تطور معرفتي به سألت خالد :
– لماذا أنت مهتم لهذه الدرجة بمشاكل الآخرين ؟
أجابني  بسؤال :
– أين المشكلة في الإهتمام بالناس ؟
– الأمر المعتاد ان يكون الإنسان أنانيا يضع مصلحته  الشخصية أولا ، ويفضل راحة البال خصوصا انت ملحد لاتطمح بالحصول على الأجر والثواب ودخول الجنة من وراء عمل الخير .
إبتسم خالد ولم يعلق، منعه  نبله وتواضعه من الحديث عن قيمه الأخلاقية وإلتزامه وشعوره بالمسؤولية  نحو الحياة والبشر .
 
كان خالد مروان كثير النقد لنفسه ، ولايثق بالطبيعة البشرية بعد ان جردها من كونها مخلوقة من قبل الله ، وكان سعيه لتهذيب ذاته وإختيار أفضل المواقف والسلوك لها  لايهدأ  ،  بعد تركي الإيمان بالأديان والأنفتاح في العلاقات الإجتماعية خارج دائرة المؤمنين .. عرفت معنى أن يكون الإنسان محترما من خلال رقيه الأخلاقي بعيدا عن الأديان ، وأن الملحدين أكثرهم أصحاب قيم أخلاقية أفضل بكثير من المتدينين .
  بفضل النقد الذاتي المستمر ، والتشكيك بالطبيعة البشرية  والتمرد على الأديان .. شعرت ان الجانب الإنساني في داخلي أخذ يبتعد عن القولبة والتلقين  وبدأت أقيس الأمور بمقياس العدالة  لدرجة صرت أعتبر علاقة الإهتمام والمحبة للعائلة والأقرباء والأصدقاء .. ليس لها إرتباط بالقيم الإنسانية ، بل هي علاقة  ( عنصرية )  مادامنا نفضل العائلة والأصدقاء على ( الغرباء ) ولانعاملهم بنفس المستوى ، وهذا النوع من القيم الإنسانية تقمعه الأديان وتدينه  وتعطي الأولوية ( لعنصرية ) العلاقة بالأهل والمعارف وتعتبر الأمر من باب البر والوفاء وحُسن العشرة .
ان التحدي الأخلاقي الكبير هو كيف نسيطر على أنانيتنا وإنحيازاتنا .. ونسعى الى تطبيق العدالة في إهتمامنا وتعاملنا اليومي مع الناس ، ومن المؤسف الإنسان الحالي حتى المتحضر والمثقف لا يستطيع السيطرة على أنانيته بشكل مطلق ويظل الأمر نسبي ، وغير قادر على ان يكون عادلا بالمطلق .. ولهذا نشاهد الظلم على الصعيد الفردي والجماعي على الأرض !