18 ديسمبر، 2024 5:27 م

إنتفاضة الشباب وأولويات إختبار الوجود السياسي

إنتفاضة الشباب وأولويات إختبار الوجود السياسي

منذ إندلاع الانتفاضة الشبابية في تشرين أول 2019، تتصدر وسائل الإعلام الورقية والمرئية والالكترونية، آراء ونصائح مثالية منمقة يروج لها صحفيون وكتاب ومفكرين من أقصى الاتجاهات الاسلاموية الى أقصى الانتهازية. يبدو في لحظة ما وكأنها تعبر عن نوايا صادقة لكنها في واقع الحال حماقات سياسية، لا تلامس مطالب المتظاهيرين ومشاعرهم الوطنية الحقة، بقدر ما تتناغم مع مصالح فئات متأدلجة داخل السلطة وخارجها لها حساباتها وتفهم لعبة المناورة التي يمارسها البعض ضمن مخطط الحرب النفسية لافراغ الإنتفاضة من مضامينها. من منظور ثالث، يستطيع المرء أن يتخيّل عندما تتكدس التلميحات، الخفية والمعلنة، بعيداً عن المروءات، كم من الزيف يختبأ وراء تلك الأقوال التشطيرية. الغريب أن أصوات خلط الأوراق أصبح أمر عادياً يمارسه العديد من المغرضين في الأوساط الإعلامية بشكل مثير للغاية، يبحثون لأحزاب السلطة عن مخرجات مدفوعة الثمن على حساب “الوطن”. ذلك لم يعد أمراً نادراً، إنما الذهاب إلى ما هو أخطر، إستخدام ما يعرف في علم النفس السياسي “ارباك المشهد” بمعنى إحتواء المتظاهرين وإحداث صراعات متباينة في صفوفهم، وبالتالي إنتاج حالة من الاضطرابات “المندسة” في سوح التظاهر لتحييد الموقف الثوري وخلق نوع من عدم التوازن داخل التنسيقيات.

السؤال: هل من الممكن حدوث تغيير لهذه النمطية المربكة، التي أصبح “ولا أعمم” ما يسمى بالخبير الإعلامي والكاتب والمثقف السياسي “الاستقصائي”، يخرج بمثابة شرارة في وسائل الاعلام لوأد الانتفاضة التي كادت ذروتها أن تصبح ثورة شعبية تنتهي بسقوط النظام الطائفي برمته؟.. الكارثة أن الاحزاب التقليدية العراقية، العلمانية اليسارية والقومية والليبرالية، ليس لديها رؤية ناضجة لإستقراء المستقبل، على الرغم من تغيّر نمط التفكير السياسي العام الذي طرأ بشكل هائل على العقل البشري أثر تفكك الدول الاشتراكية في تسعينات القرن الماضي. وما زالت تعاني من “جمود عقائدي” أدى الى عدم إستيعاب اللحظة الحاسمة نتيجة رؤى حزبية ديماغوغية ساذجة وردود فعل مرتبكة غالبا ما تكون قاتلة، خارج الواقع السياسي الموضوعي الذي مهد في مرحلة ناضجة للتغيير. “فمن يضيّع الفرصة سيحرم نفسه من الوصول إلى لحظة المقبولية”. لذلك، “الجماهير” وحدها، التي إذا ما كانت مواقفها مرتبطة بنجاح الثورة وتفويضها تمثيل شعبي بعيدا عن سطوة الأحزاب ومصالحها الضيقة، تستطيع أن تحدث التغيير السياسي في اتجاه المستقبل وإعادة الحياة السعيدة والامان لكافة أبناء المجتمع العراقي دون تمييز. وهي ألتي يمكن أن تحقق الإصلاح المجتمعي لتقويم الحياة السياسية وخلق مجتمع خال من الظلم والاستهتار، الذي لازالت أحزاب وكتل طائفية خارجة على القانون تمارسه ولا تفكر إلا الاستئثار بالسلطة والامتيازات على حساب مجتمعات وطوائف ومحافظات منكوبة!.

على مدى أكثر من خمسة وخمسين عاماً يتعرض الشعب العراقي بكل مكوناته للعنف السياسي الذي تمارسة القوى المتنفذة في الدولة. ويتعرض العراق اليوم الى عدم الاستقرار والاقتتال الطائفي ومخاطر التقسيم بسبب الحروب والصراعات الاقليمية والدولية على أرضه. وبسبب مخلفات اسلحة الدمار، الكيميائية والنووية، التي استعملتها القوات الامريكية وحلفائها اثناء الحروب العديدة مع نظام صدام الديكتاتوري، لازال آلاف العراقيين يتعروض الى أمراض خطيرة كالسرطان والامراض الجلدية والتشوه الوراثي التي يذهب ضحيتها المئات سنوياً. بالإضافة الى إنهيار النظام الاقتصادي والصناعي والزراعي وتفاقم البطالة وتردي الاوضاع الصحية والتربوية والتعليمية وشحة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب وانعدام الأمن وانتشار الجريمة المنظمة. أن قرار الحاكم الأمريكي بريمر بعد احتلال قوات التحالف للعراق في أذارـ مارس 2003 حل مؤسسات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، كان قراراً له دلالات سياسية متعلقة بمستقبل العراق ومستقبل الطبقة السياسية العراقية المعارضة آنذاك، الشيعية والسنية والكردية. حيث اعتبرته إستجابة طموحة لتأسيس “نظام حكم طائفي” تستند عليه. ألا أن الكثير من الدراسات الغربية تؤكد بأن تلك المؤسسات، أفرادها ومعداتها ومواقعها، لم يكن لها أية دور أو وجود بعد السقوط مباشرة. ولولا ذلك القرار الخاطيء لما كان بإمكان داعش من السيطرة والانتشار. وتشير أيضاً الى ما هو أخطر، من أن ميليشيات احزاب السلطة تمكنت من اختراق كل تلك الأجهزة ومؤسساتها بالشكل الذي يضمن هيمنة الأحزاب المتنفذة وإشاعة الفوضى السياسية على نحو طائفي أنتج الويلات والانهيار الكامل للدولة ومؤسساتها. الأمر الذي زاد من سوء الاوضاع الاقتصادية والامنية والانسانية والمجتمعية التي باتت تهدد السلم الأهلي وتعرض البلاد للخطر.

أنتجت الأحداث والازمات المتراكمة ظهور جيل جديد داخل المجتمع، سيما بين قطاعات واسعة من الشباب، يحمل أفكاراً نهضوية معاصرة لاحتواء المشهد السياسي وإنهاء هيمنة الاحزاب الطائفية الفاسدة وقواها الفعلية في الدولة العميقة، ومحاربة الفساد الاداري والمالي واستعادة الدولة هيبتها. تعرضوا خلال ذلك للعديد من محاولات القتل والاختطاف امام مرآى أجهزة الأمن والشرطة، كان آخرها ما حدث في سوح التظاهر في أكثر من سبع محافظات في الوسط والجنوب خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الاولى للانتفاضة من احتلال وتخريب وحرق للخيم والإعتداء بالسلاح الناري والقنابل على المتظاهرين من قبل قوى وميليشيات مسلحة تنتمي لجهات مشاركة في السلطة.. لم يكن ذلك غير متوقع، إنما ان تصل الامور الى هذا الحد من الوقاحة والسخرية والسذاجة!.. أنه لأمر غريب ترتكب شتى الجرائم اللاانسانية وتُنتهك كل المقومات الاساسية لحقوق الانسان ومؤسسات الدولة، وتُعرض مبادئ الدستور وحفظ الأمن والقوانين العامة للإنتهاك ويتفاقم تحكم الاحزاب الطائفية في قرارات الدولة، دون رادع قضائي أو قانوني.

في ظل كل هذا الاستهتار والهيمنة السياسية واستمرار إرتكاب الجرائم والتسويف، ليس أمام سوح التظاهر وتنسيقياتها في جميع محافظات تواجدها، سيما وان الانتخابات مقبلة وينبغي فرز الغث من السمين قبل فوات الآوان، إلا الذهاب إلى أبعد ما يمكن لتوفير المناخ الطبيعي لتشكيل لجنة تنسيق جامعة تختار بين صفوفها النزيهين والمخلصين من العراقيين، قانونيين وأكاديميين ومثقفين وإعلاميين، تتحدث بإسم كل الساحات والمتظاهرين، كما لها حق التعبير والتفاوض بإسمهم في اية محفل في الداخل والخارج وفق مقررات جماعية مدروسة.. وإذا ما عدنا للسؤال الذي يشغل بال العراقيين على مدى سنوات: هل من إمكانية لإحداث تغيير جذري في العملية السياسية؟. يتطلب من القوى والاحزاب الوطنية العراقية خارج منظومة الكتل والاحزاب المستأثرة بالسلطة، ان كانت مؤمنة بحتمية الصراع كي “نكون أو لا نكون” لاجل مصير شعب ووطن ؟، ان تنظر بجد الى مسألة التحالفات فيما بينها كمبدأ لتحقيق بناء جبهة وطنية واسعة، تستطيع أن تشكل قوة فاعلة في المعادلة السياسية لإحداث تغيير سياسي باتجاه دولة المواطنة التي تكفل المبادئ والقوانين المعلنة في ميثاق الامم المتحدة شرعيتها وباتت مسألة آنية بالغة الأهمية لإنهاء مخلفات العهود المظلمة. ان تحقيق هذا الهدف الوطني النبيل، يقتضي اتخاذ موقف عملي ثابت وصريح من جميع القضايا الهامة وفي مقدمتها تغيير نظام الحكم الطائفي وتعديل الدستور بما يتناسب وطموحات المجتمع العراقي وأمن المواطن وضمان حرياته، بعيداً عن المساومات والمصالح الفئوية والحزبية الضيقة، ومن اجل المصلحة الوطنية العليا فقط. وإذا كانت الاحزاب غير قادرة على لم صفوفها لمواجهة التحديات بما تقتضيه المصلحة الوطنية العامة، فعليها من باب المسؤولية الأخلاقية على اقل تقدير، ان تضع مسألة تعرض المصالح الوطنية العامة ومنها “الثروات الطبيعية والممتلكات المالية والعقارية والاراضي الحدودية والمياه” التي اعتاد مسؤولين في الدولة التفريط او التبرع بها سراً لدول الجوار وحكامها، واحدة من مسؤولياتها الوطنية التي يجب ان لا تمس بدافع مصالح سياسية أو فئوية. إنما هو من ناحية النضج السياسي إذا ما أرادت الأحزاب إعتباره من أولويات المقررات التي تختبر وجودها، أمراً على المستوى القانوني والدستوري لا يقبل الجدل.