عندما غادرت العراق قبل عقود , كانت هناك صورة واحدة تنتشر في أرجاء البلاد .
وحينما زرته في زمن المباريات الإنتخابية , وجدت صورا لمئات أو ربما لآلاف الأشخاص تتزاحم في الساحات والطرقات, وكأن البلاد من أقصاها إلى أقصاها , في مهرجان صور وحسب!
قال سائق التاكسي: إنها الإنتخابات , فهناك صور باقية وتزداد حجما وحضورا مع الأيام.
قلت: إنها محنتنا!
قال: يصرفون الكثير من المال على هذه الصور , إنها أموالنا , والفقراء يزدادون فقرا!
لم أجبه , لكنني مضيت أتأمل جوانب الطريق الذي تزدحم فيه الصور , بأحجامها وألوانها و (بوزاتها).
والغريب أن عددا من سيارات (البيكب) , لا تزال محملة بالصورة الكبيرة الحجم والتي يعمل المهتمون بشأنها على تعليقها في كل مكان.
وتساءلت عن وعينا الإنتخابي , ورؤيتنا وفهمنا للديمقراطية.
إذ يبدو نحن نمارس ديمقراطية الصورة لتأثيرها النفسي والسلوكي في مسيرتنا السياسية والإجتماعية , وهذا يرتبط بمخلفات التفاعلات التي تحققت في الحالات السابقة , والتي رسّخت ثقافة الصورة والفرد والفئة والحزب والقبيلة والعشيرة , فصار كل هدف مقرون بصورة فرد.
فترى الشيوخ قد تألقوا في صور , ورجال الدين , والذين يريدون التعبير عن رغباتهم المتنوعة .
ولا تجد في هذه المهرجانات الفوتوغرافية المكلفة , أية مخاطبة ذات قيمة وطنية أو ديمقراطية, ولا تقرأ أي مشروع أو أجندة إصلاحية يكون صاحبها بقدر تحمل مسؤولية كلمته وإلتزامه بها.
فالحملات الإنتخابية على ما يبدو عبارة عن تضليل وخداع وتخويف وترغيب , وإنسكابات سرابية في بيداء العدم والضياع , فالمهم أن تفوز الصورة , وبعد ذلك يكون لصاحبها شأن وإمتيازات وتوجهات تخدم صيرورته الشكلية المقيّدة لحياة الناس من حوله.
ومَن يتمثل ما يجري في واقعنا يدرك تماما أنها سلوكيات معبّرة عن التشظي الطغياني أو الإستبدادي , وكأن الفردية والإستبداد قد أصابتها إنشطارات أميبية متسارعة , أدت إلى تكاثرهما بسرعة غير معهودة , فقد كان في البلاد فرد واحد , والآن تحققت الفردية في عشرات الآلاف منا , متزينة بالديمقراطية أو متقنعة بها.
وهذا يعني أن الفردية والإستبداد , سلوك متأصل فينا , ولايمكننا أن نتشافى منه بسهولة , وإنما نحاول التعبير عنه بوسائل تتفق والتطورات الحاصلة بيننا ومن حولنا.
فهل وجدتم في مجتمع ديمقراطي , صورا بهذا العدد الذي تجدونه عندنا؟!!
إنها ظاهرة مؤسفة , تدلل على حجم ودرجة الأمية الديمقراطية , والجهل الفاضح بآلياتها ومعانيها ومعاييرها وتطلعاتها.
وهي محاولات متواصلة للوصول إلى أعلى درجات التجهيل الحضاري في البلاد , لتحقيق الأهداف والرغبات الكامنة في صدور الآخرين.
فلا توجد مناظرات إنتخابية وإنما صور إنتخابية!!
فهل من الديمقراطية أن نبذل هذه الأموال على الصور , والناس في عوز وفاقة وعناء؟!
وهل من الديمقراطية أن لا تجد أية مشروع أو طرح وطني , وأهداف واضحة ترمي إلى تلبية حاجات الإنسان؟!
وهل من الديمقراطية أن تنتشر في البلاد صور, ربما تعادل نصف عدد السكان المبتلى بالعناء اليومي وفقدان الأمن وقدرات تلبية حاجاته الأساسية , وتحطم البنية التحتية لوجوده كدولة ومجتمع؟
إن الديمقراطية , لا تمت بصلة إلى الصورة , والوقفة , واللقطة والإبتسامة , والنرجسية الفاقعة التي تبدو عليها الصور المهيمنة على شوارع البلاد.
الديمقراطية تعني أن تنطلق طاقات الإنسان لخدمة أخيه الإنسان وبناء المجتمع , وفقا لضوابط ومعايير أخلاقية وثقافية وإقتصادية ودستورية , تحقق المصلحة العامة وترعى حقوق المواطنين.
ولا يمكن القول بأن ما يجري سلوك ديمقراطي نزيه , وإنما هو عين الفساد وجوهره , ويرفع رايات الديمقراطية ويتبجح بإسمها , ولا يعرف منها إلا ذلك!!
إنّ من الديمقراطية التخلص من عاهة الصورة , والتخاطب بلغة العقل والمصلحة الوطنية , والمشاريع والبرامج الصالحة للإنسان , لا أن نتفاعل وفقا لأبجديات الصورة الفارغة!
إن الديمقراطية لتستحي من هذه الصور وتأنف منها , فأزيلوها , واطرحوا بدلها مشاريعكم الوطنية , وبعدها لنتحدث عن الديمقراطية كسلوك فاعل في مسيرة الحياة , ومنهاج حضاري لصناعة المستقبل السعيد!!