22 ديسمبر، 2024 11:38 م

إنبناء مطاع صفدي للمغيوب زمن القطيعة الكارثية

إنبناء مطاع صفدي للمغيوب زمن القطيعة الكارثية

” لا تزول ثقافة الإنبناء إلى المغيوب لكنها تدخل صراع منافسة مع اختراق ثقافة الإنبناء إلى المجهول”1[1].رحل عن عالم الكون والفساد بعد رحلة نضال سياسي ومكابدة علمية ومعرفية باعث مركز الإنماء القومي ومؤسس “مجلة الفكر العربي المعاصر” الغراء  وشقيقتها الصغرى مجلة “العرب والفكر العالمي” الفيلسوف العربي والمترجم المرموق مطاع صفدي أحد قامات الثقافة العربية في زمن الجدب وأفضل الكتاب بلغة الضاد في ثوب فصيح جديد وأهم عصامي معاصر تمكن من النفاذ إلى أشد أغوار الفلسفة عمقا ومن نقد أكثر طبقات الميراث تكلسا ومفجر الحداثة البعدية في زمن ربيع الشعوب العربية الثائرة.
لقد حاول تفكيك الشر المحض الذي رآه متجسدا في الاستبداد والاستعمار دون أن يسلم العقل الغربي من سلاحه التشريحي والنقدي وآمن ببراءة الصيرورة وحكمة الحب وفن السؤال وأدب الالتزام والمقاومة.
لقد بدأ مؤرخا للأدب العربي مغرما بالشعر والرواية والجماليات والنقد الثقافي والنضال السياسي ودافع على القضايا العروبية ضمن رؤية وحدوية ديمقراطية ولكنه ما لبث أن ثار على كل الأنظمة الشمولية.
لقد آمن بالشباب العربي ومقدرته الإبداعية وتواصل مع كل الأجيال وشجع جميع الأقلام ووقف إلى جانب العديد من المبتدئين وكانت ثقته في البراعم التي تتفتح كبيرة وتعززت ريادته للعمارة الفلسفية العربية مع تتالي إصداراته الفكرية القيمة وتأليفاته المبتكرة وترجماته الخالدة للينابيع وأمهات الكتب في الفلسفة الحية.
لقد امتدت حياة صاحب “إستراتيجية التسمية” طيلة 87 سنة كانت كلها حافلة بالعطاء والبذل والإصرار والمواقف الصادمة والجريئة بخصوص المحطات الرئيسية التي عاشتها الأمة وانتصر إلى المبدأ وكان ثابتا في اختياراته الكبرى حول القيم التقدمية والمعايير الكونية ومناداة المجتمعات العربية بالنهوض.
لقد كان يردد دائما بأن العقل يعود فردا وبأن العرب لن يطرقوا أبواب المدنية والتحضر إلا من زاوية التنوير العمومي وتحرير الفضاء السياسي من قيود السلطة وبمنح التفلسف وجودا أرحب وحرية التفكير حقا كونيا. لقد كان طموحه استعادة النهضة العربية في لحظتها الثانية خارج اطار الايديولوجيا واليوتوبيا وضمن المشروع الوجودي الإنسي الذي يصنع الحداثة في الطريق الذي يقلب فيه التراث بمختلف أبعاده.
لقد جمع قلمه بضربة واحدة حروف الفارابي والحكمة المشرقية لابن سينا والفلسفة الأولى للكندي ومفهوم الصداقة عند الغزالي وتجربة الغربة عند التوحيدي وتهذيب الأخلاق عند مسكويه وتدبير المتوحد عند ابن باجة وقصة حي ابن يقظان عند ابن طفيل وفصل المقال عند ابن رشد والفتوحات المكية عند ابن عربي.
بيد أن افتتانه بالإغريق قبل سقراط وبعده لا يمكن حجبه واعتماده على سبينوزا في نقد الحداثة الكانطية وعلى نيتشه وهيدجر في تفكيك فلسفة الذاتية لا ينبغي إهماله وسرعة انتقاله إلى العصر الهرمينوطيقي للعقل الغربي وبحثه الدؤوب في إمكانية تحيين حركة التأويل في الثقافة العربية ودفعها لتواكب تحولات التأويلية هي مسألة مبدئية بالرغم من تأثره المتأخر بعقلانية هابرماس التواصلية وبراغرامتية رورتي.
لقد لعب دور الكشاف بالنسبة إلى فلسفة عربية تواقة إلى التجدد ومارس مهمة السفير بالنسبة للفكر العربي وراهن على خيار الاجتهاد وحاول التخلص من باراديغم الإجماع وكسر عادة التقليد ودفع مناطق الصمت الى أن تتكلم بنفسها وحاور معظم الأنساق والمرجعيات الوافدة بندية واستخرج منها لبها ورحيقها وقدمه في طبق للمتلقي العربي وجعل الفلسفة الغربية تتحدث بلسان سبويه وابن جني والدؤلي دون تكلف وعناء.
لقد ألف العديد من الروايات الصاخبة على غرار جيل القدر وثائر محترف وأشباح أبطال ودون تجربته السياسية في مؤلفات نقدية مثل فلسفة القلق والثورة في التجربة وحزب البعث: مأساة الولادة…مأساة النهاية وقام بترجمات عديدة للفلسفة الغربية ضمن مشروع صفدي للينابيع مثل كتابات هربرت ماركوز الحب والحضارة وكتابات ميشيل فوكو وكتاب جيل دولوز وفليكسى غتاري: ماهي الفلسفة ومارس الكتابة الفلسفية الإبداعية في إستراتيجية التسمية في الأنظمة المعرفية ونقد العقل الغربي وماذا يعني أن نفكر اليوم ونقد الشر المحض وختم حياته بكتابين هما :الفلسفة براءة الصيرورة والفلسفة فجاءة الذات العالم.
لقد صرح في مقال ختامي ما يلي: “مع النقد صار لابد ، عند كل منعطف حضاري ، من إعادة إثبات عالم الأشياء مقابل عالم التصورات، المدعوة الأفكار تجوزا، وذلك بمراجعة صارمة جذرية لإستراتيجية العلاقات بينها سابقا، والكشف عن بعد جديد ، يسمى قطيعة فكرية أو ثورة عقلانية وحتى سياسية”2[2].
إذا كان حال العرب في العصر المرآوي والشر المحض قد أسقطته ثقافة الديجتال مغشيا عليه وانبنى إلى المجهول فإن مخترق الكينوني ومفتش الأصلي والطامح أبدا إلى فهم أحوال الإنسية قد انبنى إلى المغيوب.
سلام إلى روحه المجنحة في سماء الأفكار المتلألئة وتحية فلسفية كلها وفاء واحترام إلى عقله المتدفق حقا ومحبة والمسؤواية التاريخية ملقاة اليوم على كاهل أجيال من مريده ومتابعيه من أجل مواصلة مشروعه.
لقد اختتم مجلته المحكمة بالإخبار عن موت الأفكار مذكرا بأن مذاهب الفلسفة هي مثل الكائنات التي تحيا وتموت ويصل بالأمر بالفكرة بأن تزول من الوجود لأن الفكرة الحية التي لا تموت بسبب غيابها بل لأنها قابلة لأن تموت، فكأنه كان على علم بأن موت الشخص ليس بالأمر الطارئ عليه ، ولكن أليست حياة الشخص تقاس بالأفكار الحية التي يبدعها؟ أليس حكمة الحب التي نادى بها هي حدث الحقيقة الذي يدوم؟
الهوامش والإحالات:
 [1] صفدي (مطاع) ، الفلسفة براءة الصيرورة، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد169، مركز الإنماء القومي، بيروت، خريف 2015 ، ص05  
 [2]  صفدي (مطاع) ، الفلسفة براءة الصيرورة، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد169، مركز الانماء القومي، بيروت، خريف 2015، ص09.
المصدر:
مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد169، سنة 35، مركز الإنماء القومي، بيروت، خريف 2015.
كاتب فلسفي

  صفدي (مطاع) ، الفلسفة براءة الصيرورة، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد169، مركز الإنماء القومي، بيروت، خريف 2015 ، ص05 [1]
 [2]  صفدي (مطاع) ، الفلسفة براءة الصيرورة، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد169، مركز الإنماء القومي، بيروت، خريف 2015، ص09.