اسمحوا لي بمخاطبتكم ،اليوم، لأقول لكم ،منذ البداية، ان الثقافة العراقية خلال السنوات الماضية كانت في حالة تائهة، إذ أن قطاراتها لم تكن موضوعة على سكة متينة أو سليمة أو مستقيمة. لم يكن جسدها قادراً على النمو الطبيعي، مما جعل أذرعها باردة وأقدامها لا تستطيع ولوج دروب مضيئة في رحاب الأدب والفن والثقافة عموما وهي كما يعرف الجميع ما زالت ترتطم بمشكلات معقدة كثيراً وصعبة كثيراً.
أنت ، أيها السيد الوزير ، أعرفُ مني بحقيقة المناقشات الدائرة في اوساط المثقفين العراقيين حول تخمّر البنية التحتية، السينمائية والمسرحية وغيرها، وهي الخمرة الناتجة عن حروب صدام حسين، الدائمة الحضور بين جفنيه ،في عدائه المتأهب دائما لمحاربة وعزل الثقافة التقدمية ، التي ما زالت آثار سياسته تاركة بقايا خرابها تدوّي في مقاهي الثقافة في شارع الرشيد ، بصالات العرض السينمائي والمسرحي في شارع الرشيد، في مكتبات الثقافة في شارع الرشيد ، وفي مسرح الرشيد نفسه في صوب الكرخ وغيره. تتابعَ هذا الدويّ طيلة 10 سنوات مضت ظلت معه أهم القضايا الثقافية العراقية معلقةً على اغصان الاهمال والتغافل والروتين والتقصير وغيرها من متعرشات التهميش والإقصاء ،التي استحالت في عمرها الى عقد كامل من الزمان حتى الان .
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 صار حديثٌ كثير في السياسة العراقية ، عن تنمية النفط العراقي ، عن محاربة الفساد المالي ،عن الحقوق المدنية للمواطنين العراقيين، عن محاربة تنظيمات القاعدة ثم داعش وعن المبادئ الديمقراطية وغيرها. لكن الحديث والعمل عن (الثقافة) وعن (اقتصاد الثقافة) لم يكن بالمستوى المطلوب او المفترض. صحيح أن هذا التقصير لم يكن نتيجة قمع سياسي أو تضييق صحافي أو منعٍ من قبل الدولة العراقية الجديدة ومؤسساتها، حيث حرية التعبير متاحة نسبياً. لكن الواقع الثقافي الناقص كان سببه عدم وجود وتوفر (البنية الثقافية التحتية) وهي كما تعلمون ضرورية لبناء أبسط مقومات المجتمع العصري ، المدني، الحضاري. المقومات الثقافية هي، كما في تجارب العالم المتقدم كله، الخالقة الحقيقية للمهارة الانسانية وللبنى الاجتماعية لتحويل مجتمعنا الزراعي المتخلف الى مجتمع صناعي متقدم .
ليس من حقي ان اخبركم ان (الاقتصاد الاستبدادي) ما زال قائما في اغلب مؤسسات وزارة الثقافة على أنماط (السيطرة البيروقراطية) على قدرات جميع المبدعين المنتظرين صدور أوامر قبول هذا المطلب الثقافي او ذاك ، هذا النشاط المسرحي او ذاك، هذا الفيلم السينمائي وانتاجه أو ذاك، هذا المسلسل التلفزيوني او ذاك.. كلها خاضعة ليس لقواعد الحريات الديمقراطية بل لذبذبات سيطرة بعض موظفي وزارة الثقافة واوامرهم.
مع الاسف الشديد ،بعد عشر سنوات من الحرية المفترضة المتاحة في التصريحات والبيانات الرسمية ، لم يسمح للمثقفين العراقيين المتجمعين في منظمات ونقابات واتحادات فنية او ادبية او ثقافية عامة، ان يشاركوا في تحريك آلة وزارتكم الموقرة للمساهمة في خلق (الثروة الثقافية) وتطوير إمكانياتها بوسائل تطوير قواعد (الاقتصاد الثقافي) الذي ظل حتى الان مزيجا من الرماد والخراب، خصوصا في ميادين السينما والمسرح وفي اعادة صنع قيثارة الحياة الثقافية الجديدة في بلاد بابل وسومر واشور .
انتم يا سيادة الوزير أعرف مني بحاجة بلاد الرافدين ،كلها ، الى ترقية وسائل الانتاج الثقافي الوطني وليس الى ابقاء البيروقراطية على قيد الحياة بكامل قوتها لتعطيل نمو الثقافة الوطنية. من الضروري ان تجعلوا المثقف العراقي (موجوداً) بقوة في الساحة ، وأن تجعلوا بمقدور الفنان العراقي ان يكون انتاجه عاملا من عوامل مواصلة (الوجود) أيضاً. لا شك انكم في مقدمة من يريد انقاذ مؤسساتنا الثقافية، التي غدت شاحبة، أو ناحلة، في فعالياتها المأمولة خلال السنين المضية، بينما كان المتوقع ان تكون وزارة الثقافة أول من يلتصق بإيقاع التقدم والتنوير، لكن نهارها ، كما يبدو، ظل متردداً، فقد صار من المستحيل بفعل البيروقراطية الثقافية ان تتخلص الثقافة العراقية من قطار الليل الطويل في وقت ما زال فيه المثقف والفنان العراقي راكبين في الدرجة الثالثة من هذا القطار.
أملي وطيد أن تكونوا ليس وزيراً قديراً فحسب، بل شاهداً حاسماً لرفع مستوى الأداء الثقافي في وزارة الثقافة. كما اجد ضرورة التذكير ان تنظيف (البيئة الثقافية) أمر حيوي للغاية، تماماً مثل حيوية تنظيف (البيئة المادية) كلها من جميع العثرات ومن مختلف أشكال الخراب ، ليكون كل مثقف عراقي وكل منظمة ثقافية – فنية عراقية طرفاً في حوار وطني شامل حول الثقافة العراقية ، في هذه المرحلة الصعبة ، من مراحل الواقع السياسي العراقي المصلوب بحرب دامية لإنقاذ الوطن العراقي من (تنظيم أسود) عنوانه دولة الخلافة الاسلامية (داعش) وغيرهم من الظلاميين . من دون هذا فأن (التحديث الثقافي) لن يتم وان المجتمع المدني كله لن يكون قادراً على مجابهة تحديات العصر الراهن وايجاد الحلول الواقعية للأزمات الثقافية التي زعزعت قدرة المثقفين العراقيين كقوة احتمالية منافسة للظلاميين . لا شك ان ضعف (الاقتصاد الثقافي) معناه إبقاء نواقص وزارة الثقافة على حالها . معناه العجز عن تجميع القدرة الفاعلة النشطة لمجابهة كل معطلات (التجديد الثقافي) المنتظر ،تحت قيادتكم الفعالة بخلق ميكانيكيةٍ هادفةٍ الى تحريك فعاليات المثقفين والفنانين العراقيين جميعا.
الثقافة والفنون والآداب كلها لا يمكن ان تتطور وان تتقدم الا اذا كانت ناجمة عن شروط خاصة وظروف خاصة في سياق تكنولوجي – اقتصادي متقدم يسم العراق في القرن الحادي والعشرين بسمات عصر (الاقتصاد الالكتروني) لتعزيز مكانة المثقف، مثلما هو تعزيز مؤكد لمكانة الفئات الاجتماعية المؤمنة بحقيقة أن الثقافة أداة رئيسية للتغيير الاجتماعي الشامل.
ختاماً لكم مني، يا سيدة الوزير، تحية حارة .