الأمة الكوردية المقسمة بين جغرافية دول المنطقة وفق اتفاقية سايكس بيكو المجحفة (1916) لها علاقات تأريخية وثيقة مع جميع شعوب المنطقة وبالأخص مع الدول المحيطة، لاسيما ايران وتركيا المتصارعتان على مناطق النفوذ منذ نشوء الأمبراطوريتان العثمانية والصفوية (1532–1555).
نظرا لمنح جزئي شمال وشرق كوردستان لكل من تركيا وايران من قبل الدول الكبرى فرنسا وبريطانيا، فان العلاقات بين الكورد وهاتان الدولتان مهمة للجانب الكوردي وكذلك لكل من انقرة وطهران وذلكلتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الأوضاع في هاتين الدولتين والمنطقة برمتها،ويتأثر كلا الجانبين الكوردي من جهة والتركي والايراني من جهة بكل حدث في المنطقة ايجابياً كان ام سلبياً.
حاولت كل من تركيا وايران والدولتين المستحدثتين كنتيجة للحرب العالمية الاولى العراق وسوريا على مدى القرن الماضي، لمسخ الهوية القومية للشعر الكوردي وصهره في بودقة مجتمعاتها، تارة بالحديد والنار والقتل والإبادة الجماعية وتارة اخرى عبر الغزو الثقافي والحصار الأقتصادي وسياسات التعريب والتفريس والتتريك،لكن كل تلك السياسات باءت بالفشل نتيجة ارادة وعزيمة وصمود ابناء هذه الأمة للحفاظ على ارضها و وجودها و نسيجها الإجتماعي، هذا ما ارغم تلك الدول الى اعادة النظر في سياساتها السابقة ومحاولة احتواء هذه الأمة عبر بناء علاقات ومصالح مشتركة.
لنعود الى موضوعنا الذي اتخذناه عنواناً لهذا المقال،تركيا التي انكرت وجود الشعب الكوردي ضمن جغرافيتها السياسية وعدتهم اتراك الجبال ولم تمنحه اية فرصة ليعبر عن ارادته وتطلعاته، غيرت من سياستها خلال العقود الأربعة الماضية وذلك بمحاولة بناء علاقات ومصالح مشتركة مع الكورد، ومن هذا المنطلق، تعاملت بشكل مغاير مع القضية الشائكة في الشرق الأوسط بالأخص بعد انتصار انتفاضة جنوب كوردستان وانشاء حكومة وبرلمان اقليم كوردستان.
منذ ذلك الحين الى اليوم، تتعاطى تركيا مع كيان اقليم كوردستان بشكل ايجابي وبالأخص في الجانبين الأقتصادي والسياسي بناءاً على المصالح المشتركة، رغم هاجسها الكبير من تنامي هذا الكيان اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وتأثيراته المستقبلية على الوضع الجيوسياسي في تركيا والمنطقة بشكل عام.
لذلك تبنى الساسة الأتراك بجميع توجهاتهم السياسية الذين قادوا البلاد في مراحل مختلفة سياسة الأحتواء بدلا من سياستهم القديمة التي لم يحققوا منها سوى استمرار نزيف الدم وهدر الأموال والوضع الداخلي المضطرب، لوجود اكثر من 20 مليون كوردي ضمن جغرافيتها وفي مناطق حساسة للغاية من حيث الموارد والثروات الطبيعة والزراعة والصناعة التي هي عماد الأقتصاد التركي.
لذلك نرى اليوم الرئيس التركي يتعامل مع اقليم كوردستان ككيان له خصوصياته و واقع حال في المنطقة ويقوم رئيسها اردوغان بزيارة العاصمة اربيل ويجلس مع قادة اقليم كوردستان بجانب العلمين التركي والكوردستاني،طالبا من قادة الأقليم استمرار العلاقات وتطويرها، ولو تيقنت انقرة ان هذا الأقليم الذي مايزال جزءاً من العراق لا يؤثر على وضعها الداخلي وسياستها ومواقفها في الشرق الأوسط، لما كانت تتعاطى معه بهذا المستوى والحجم.
اما الجانب الأيراني المتسلط على الجزء الشرقي من كوردستان، استخدم انواع سياسات القتل والتنكيل والغزو الثقافي والحصار الأقتصادي، لأستمرارهيمنته على على هذا الجزء، وحال دون نيل الشعب الكوردي لحقوقه القومية في ايران وحتى في الأجزاء الأخرى من كوردستان، وما يزال يتخوف ايضا من كيان إقليم كوردستان المتآخم على حدوده الغربية ، لذلك يسعى بشتى السبل على الأقل تقويض نمو هذا الأقليم لحسابات مستقبلية.
ورغم السياسة المتزنة والحكيمة لحكومة اقليم كوردستان خلال العقود الثلاثة الماضية وعدم تشكيل اية تهديد او خطورة على امن واستقرار ايران ، الا ان النظام الايراني ما يزال ينظر للإقليم كما يقال في المثل العربي الدارج (سجينة خاصرة) رغم ارتباطها الأقتصادي بالاقليم والتبادل التجاري معه الذي يقدر سنويا ب(4) مليارات دولار يساعدها على ديمومة اقتصادها المنهار الناتج عن الحصار الخانق التي تفرضه الولايات المتحدة وحلفائها الاوربيين عليها.
نتيجة مراجعة وتمحيص الساسة الأيرانيينلسياساتهم العقيمة السابقة وتجاربهم الخاطئة في التعاطي مع القضية الكوردية في ايران والشرق الأوسط،وصلت الى قناعة ان قبول واقع الحال مع استخدام سياسة الشد والجذب مع اقليم كوردستان،هو السبيل الأنجع في هذه المرحلة الحساسة التي تشهدها المنطقة نظرا لحضور القوى العظمى في المنطقة وصراعها من اجل توسيع مناطق نفوذها فضلا عن التمدد التركي في كل من العراق وسوريا والأوضاع الخطيرة التي تمر بها كل من سوريا ولبنان والقضية الفلسطينية الى جانب تنامي قدرة اسرائيل في الحفاظ على كيانها والسعي للتمدد مستقبلا عبر سياسة الأحتواء ومحاولة استمرار التطبيع مع الدول العربية في المنطقة،كل هذه التطورات،قادت الحكومة الإيرانيةالى ان تتعامل بعقلانية اكثر مع الأقليم وما الأستقبال الكبير لرئيس اقليم كوردستان في زيارته الأخيرة لطهران والمواقف المعلنة من قبل كبار القادة الأيرانيين لضرورة تعزيز العلاقات مع اربيل، دلالاتواضحة على دور اقليم كوردستان الحساس في المنطقة، في حين كانت ايران سابقاً تتعامل مع الأحزاب الكوردستانية على مستوى ادنى.
كل تلك المعطيات، تؤكد ان اقليم كوردستان اقليم فاعل ومؤثر على تعزيز الأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط كما له دور كبير في انقاذاقتصاديات كل من ايران وتركيا وسوريا من الأنهيار التام، بسبب تورطها في الحروب والأزمات والصراعات في المنطقة والتي ادت الى انهيار عملتها الوطنية امام الدولار الأمريكي، عليه لا يمكن لتلك الدول تجاهل دور اربيل الفاعل والمؤثر ولابد من ايجاد ارضية مناسبة للتفاهم معها وفق القراءات و السيناريوهات المستقبلية في المنطقة.