في ظل الأزمة السياسية القائمة في العراق، وفي ظل الصراع المشتعل بين إيران وأميركا على الساحة العراقية، لاسيما بعد اغتيال أميركا للجنرال الإيراني قاسم سليماني، والقيادي في الحشد الشعبي العراقي جمال جعفر الإبراهيمي، الملقب بأبي مهدي المهندس. والقصف الإيراني على قاعدتي عين الأسد في الأنبار، والحرير في أربيل، لاحظنا نضجا في سياسة إقليم كردستان الخارجية، في التعاطي مع هذه المعضلة، حيث لم ينحاز الإقليم بالمطلق مع أي من طرفي الصراع، والتزم الوسطية، وترجم رئيس حكومة اقليم كردستان(مسرور البارزاني) هذا التوجه في بيان عبَّر فيه عن أمله في أن تحترم كافة الأطراف الدور المتوازن لإقليم كردستان.
لكردستان مصالح كبيرة مع إيران بحكم موقعها الجغرافي الملاصق لها، فهي بوابة اقتصادية مهمة للسوق الكردستانية التي تفتقر إلى الصناعة المحلية، ولإيران تأثير كبير على القرار السياسي العراقي الذي ينعكس بالضرورة على الإقليم، سواء بالسلب أو الإيجاب، وبإمكانها أيضا، من خلال أذرعها المنتشرة في كل مكان، أن تلحق أضرارا فادحة بأمن الإقليم، لذلك ليس من مصلحة الإقليم معاداتها أو انتقادها علانا؛ لأن ذلك سيكون له تداعيات مستقبلية خطيرة على أمن وسلامة كيان الإقليم.
كذلك للإقليم مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية مهمة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تساعده في محاربة الإرهاب، وتقدم له الدعم العسكري، من خلال تسليح وتدريب وتطوير قدرات قواته (البيشمركة) العسكرية، وهي دولة عظمى يسعى الجميع إلى التقرب منها وكسب ثقتها. لكن ينبغي علينا هنا أن لاننس أن إدارة ترمب أعطت مؤشرات سلبية على أن أميركا حليف برغماتي لا يمكن الوثوق به، وموقف أميركا السلبي تجاه ما تعرض له الكرد في، ١٦ أكتوبر ٢٠١٧، في كركوك بعد الاستفتاء. وموقفها المخزي والمتخاذل في، ٩ أكتوبر ٢٠١٩، عندما أعطى ترمب الضوء الأخضر لأردوغان؛ لاجتياح المناطق الكردية في سوريا، يؤكدان ذلك. بالتالي فإن أي تعاون مع الولايات المتحدة ينبغي أن يكون وفق ضمانات مكتوبة على الورق، وأهمها أن تحمي الولايات المتحدة حكومة وكيان إقليم كردستان من أي هجوم خارجي، وأن لا تكتفي بالتفرّج، على غرار ما حصل عندما اجتاحت الميليشيات العراقية بقيادة قاسم سليماني المناطق المتنازع عليها بين أربيل و بغداد . من الواضح أن السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، غير مستقرة وغير متوقعة وغير موثوقة بها، لذلك من الغباء بمكان التعاون معها دون ضمانات مدونة على الورق.
إن سياسة النأي بالنفس، التي اعتمدتها حكومة إقليم كردستان، في تعاطيها مع الصراع الدائر بين المعسكرين الإيراني والأميركي في العراق، قد تترتب عليها عواقب وخيمة، فكل طرف من طرفي الصراع يروم استمالة الإقليم إلى جانبه، وعدم استجابة الإقليم لندائهما سيضعه في خانة الحليف غير الموثوق به، وسيعرضه لمشاكل جمّة، سواء مع إيران أو مع الولايات المتحدة الأميركية.
وتشير بعض التقارير الصحفية الغربية أن الولايات المتحده لم تكن راضية عن رد الفعل الكردي البطيء والمتحفظ بعد الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد. وبالمقابل كانت إيران ممتعضة من موقف الإقليم الخجول حول اغتيال قاسم سليماني، وعبَّرت إيران عن امتعاضها من خلال قصف قاعدة حرير في أربيل. إن القصف لم يكن فقط رسالة وصفعة رمزية لأميركا، بل كان أيضا رسالة مبطنة للإقليم بسبب مواقفه الأخيرة غير المنحازة لها ، لاسيما بعد أن امتنعت الكتلة الكردستانية عن حضور جلسة البرلمان العراقي، التي أعطت تفويضا للحكومة العراقية؛ لإخراج القوات الأجنبية بما فيها القوات الأميركية، من العراق .
لاشك أن سياسة مسك العصا من الوسط، وفتح قنوات للتواصل مع الجانب الأميركي والإيراني، ستكون أكثر نفعا، و أقل ضررا على إقليم كردستان، من التخندق مع أحد طرفي الصراع. إن سياسة التخندق هي مقامرة محفوفة بالمخاطر. لذلك كانت تصريحات أغلب المسؤولين في إقليم كردستان تشجع على الحياد، وتدعو إلى وقف التصعيد، و الاحتكام إلى العقل و الحكمة في حل المشاكل، وعدم تحويل العراق بشكل عام وإقليم كردستان بشكل خاص إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. ومن هنا يمكن أن يلعب الإقليم دور الوسيط في هذه الأزمة، أفضل من بغداد .