السلطة القضائية في أية دولة تمثل الأساس الذي تستند اليه بقية السلطات كما تمثل صمام الأمن للمجتمع والعامل الأساسي لاستقراره وازدهاره .
والسلطة القضائية في العراق شهدت مداً وجزراً في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 بسبب التأثيرات السياسية التي امتدت لتعبث بقراراتها وفقاً لما تمليه مصالح وإرادات الأحزاب السياسية .
وقد يكون من الصعب أن ننسب فشل مؤسسة بأكملها الى شخص واحد ، لكن الحال يختلف بالنسبة للسلطة القضائية التي عانت من جرثومة تدعى مدحت المحمود ، الرجل الذي عرض نفسه للبيع – ليس منذ عهد الحاكم المدني في العراق بول بريمر بل منذ عهد صدام حسين – ، فهو من ابتكر مصطلح (البيعة الكبرى) في عهد النظام السابق عندما كان يتزلف ويتمسح بأقدام أصغر مسؤول حكومي .
وبعد الإحتلال ، رأى بريمر في شخصية المحمود الوضاعة والدناءة التي تؤهله ليكون عميلاً ذليلاً وعبداً للدولار ، فقرر تعيينه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى ورئيساً للمحكمة الدستورية ، فكان وراء صدور تشريعات وقوانين نسبت لبريمر مثل قانون 17 لسنة 2004 الذي اعطى للجيش الأمريكي وللشركات الأمنية والمتعاقدين حصانة قضائية تجيز لهم قتل العراقيين دون محاسبة .
لكن أقذر وأوسخ دور لعبه المحمود كان في عهد رئيس الوزراء المخلوع نوري المالكي المتورط بجرائم إبادة جماعية وقضايا فساد ، فالمحمود كان اليد اليمنى التي يستخدمها المالكي ليس فقط في البطش بخصومه ومعارضيه ، بل لاعتقال الأبرياء لدوافع طائفية .
لقد أصدر المحمود الآلاف من مذكرات الإعتقال بحق الأبرياء وزج بهم في غياهب السجون ، وتستر على عمليات التعذيب حتى الموت والاغتصاب وانتزاع الاعترافات الوهمية بالإكراه ، فاضطر الآلاف من شباب أهل السنة للإعتراف بجرائم لم يرتكبوها للخلاص من جحيم التعذيب الذي يشرف عليه مدحت المحمود ، حتى ان اعترافاتهم غالباً ما تكون مضحكة مبكية لأنها في النهاية مجرد قصص يؤلفها المعتقلون على عجالة ، كأن يصرخ أحدهم (كفى كفى سأعترف ، أنا قتلتُ مائة شخص وزرعتُ ألف عبوة ناسفة ، أنا أمير في تنظيم القاعدة أو زعيم في المافيا الإيطالية في الشرق الأوسط …..) .
مدحت المحمود باختصار كان أحد أهم الأسباب في إفراغ بغداد من أبناء المكون السني ، فقد هاجر من هاجر ومات من مات تحت التعذيب ، فيما بقي نصف مليون سني تقريباً قابعين في السجون.
وعلى الصعيد السياسي ، قدم المحمود خدمات عظيمة لسيده نوري المالكي عبر تفسير المواد القانونية والدستورية بما يخدم أطماع هذا المتشبث بالسلطة ، وقد ساهم تفسيره لمفهوم الكتلة الأكبر في استيلاء المالكي على السلطة بطريقة غير شرعية .
إن خروج آلاف المتظاهرين في ساحة التحرير ببغداد مطالبين بإقالة مدحت المحمود جاء تعبيراً عن الغضب الشعبي العارم من المهازل التي تسبب بها هذا الفاسد الذي جعل من السلطة القضائية ألعوبة بيد المالكي وزبانيته طيلة السنوات السابقة ، وعلى العبادي أن يباشر بتنظيف السلطة القضائية من العناصر التي أساءت استخدامها ، وأن يبدأ بهذا المجرم الذي باتت إقالته ضرورة وطنية .