23 ديسمبر، 2024 8:16 ص

إقالة أم استقالة؟ لا فرق

إقالة أم استقالة؟ لا فرق

بالأمس، وأنا أتابع ما تتناقله وسائل الإعلام من أخبار تقديم السيد رافد جبوري: المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء د. حيدر العبادي لاستقالته على خلفية أغنية يمجد فيها المقبور صدام حسين، عادت بي الذاكرة إلى الثاني من ديسمبر الماضي.
يوم إذ كتبت تعليقاً على نبأ إستقالة إليزابيث لوتن: المتحدثة السابقة باسم السيناتور الجمهوري ستيفن فيشر. أذكر أنني ختمت تعليقي ذاك بالسؤال التالي: “كم رحلةً إلى الشمس نحتاج،
نحن شعوب منطقة الشرق الأوسخ، علنا نرتقي بثقافتنا لهذا المستوى من الاحترام، رؤساء ومرؤوسين”؟
وما هي إلا أربعة أشهر ونيف، حتى وجدتني أقطع كل تلك المسافة التي تمنيت، لأصل بغيتي على وقع خبر إستقالة السيد جبوري وقبول د. العبادي. على الرغم من كبير عتبي على شخص الأستاذ جبوري، كونه لم يتحلى بالصراحة اللازمة يوم طلب لمقابلة د. العبادي الذي أعرب له عن نيته بتنظيف المكتب الإعلامي للأمانة العامة من أدران المالكي.
إلا أنني أسجل كبير تعاطفي معه، كونه تصدى بمفرده، وبظهر مكشوف، لكن بأريحية مثالية، وبمهنية عالية، لهجمة كبرى من التشهير لا ناقة له فيها
ولا جمل. كيف لا وهو وجه إعلامي مشهود له بالمهنية، يكفيه فخراً انتدابه من قبل إحدى كبريات مؤسسات الإعلام العالمي وأكثرها رصانةً مثل BBC، برغم ملايين الوجوه التي تملأ فضاء الصحافة العراقية! ولعل العمل في مؤسسة لها ثقل دولي كالBBC، تتجاوز في حساسيتها مهمة الناطق الإعلامي باسم مكتب رئيس وزراء أيٍ من بلدان المنطقة.
برغم كل ما اكتنفها من تضارب في التصريحات والتسريبات، فهي إقالة برأي المعارضين، واستقالة برأي أنصار الحكومة، غير أنها، وعلى أي القراءتين، تبقى خطوة في الاتجاه الصحيح، إذا كنا حقاً نسعى لبناء دولة مؤسسات.
فلو سلمنا بأن الأستاذ جبوري قدم استقالته طوعاً، فذلك بالطبع نابع عن شعورٍ عالٍ بحساسية منصبه، وما يسببه أي إخفاق من جانبه من الحرج لرئيسه أمام خصومه السياسيين، وهذا بحد ذاته درس لكل موظف، كبيراً كان أم صغيراً، درس مفاده أن المنصب ليس عقاراً يرثه الموظف عن أبيه، وأن الشجعان يملؤون حيز المكانة، وأما سواهم فلا يملؤون سوى حيز المكان. أما لو سلمنا بقيام د. العبادي بإقالة المتحدث باسمه، الأمر الذي يكاد يكون وافداً على أدبيات مؤسسات الدولة العراقية، فهذه الأخرى تحسب له،
ذلك أننا تعودنا على مشهد تشبث الرئيس بمرؤوسه حتى النزع الأخير، ضارباً بذلك بالمعترضين وباعتراضاتهم عرض الجدار بحكم ثقافة (الفزعة) الضاربة بجذورها في الخارطة النفسية للفرد العراقي.

بيد أن ما يحسب على د. العبادي جملةً وتفصيلاً، هو أن المتحدث السابق باسمه كان مضطراً اضطرار الكثيرين من شباب العراق أيام ضاقت بهم السبل، فلم يجدوا بداً من الغناء للمقبور “لتلبية متطلبات العيش آنذاك، وهو أمر معروف لكل من عاش ظروف العراق قبل ٢٠٠٣”، مما يجعلني أصف قرار د. العبادي بقبول استقالة السيد جبوري بالقرار المتعجل وبامتياز. ولو كلف هذا الأخير نفسه أن يمعن النظر في تأريخ الكثيرين من موظفي مكتبه الخاص، وآخرين ممن تسنموا أعلى المناصب، وغيرهم ممن تقلدوا أرقى المراتب، وهنا أقصد أولئك الذين جاءوا بتزكية من ذات الجهات التي روجت لمقطع الفيديو محور المقال، لكان أدرك أن السيد رافد جبوري أقلهم جرماً بحق العراق و العراقيين وبلا منازع.
حيدر العبادي ورافد جبوري! لقد كانت خطوةً شجاعةً وبكل المقاييس، فعلى الرغم من حجم الخسارة لكليكما، إلا أنكما ألقمتما المزمرين والمطبلين من أيتام الولاية الثالثة الحجر تلو الحجر! ويكفيكما فخراً أنكما جعلتما العراقي يشعر بأن ثمة من يسعى لإقامة دولة مؤسسات، ولو على حساب مصلحته. فلا حلم أبعد لأي إعلامي من حلم انتدابه للعمل كمتحدث باسم رئيس إحدى السلطات، وما من مسؤول ليرفض أن يسعفه الحظ بخطاب متعقل كالذي يتمتع به وجه إعلامي مشرق تتهافت عليه كبريات مؤسسات الأعلام حول العالم. والسلام على العراق من البصرة الفيحاء إلى الموصل الحدباء!