ولدت فكرة إعلان شيعة العراق متدرجة عبر حوارات ولقاءات مطولة دامت أكثر من سنة ونصف، واشترك فيها العشرات من الشخصيات الشيعية من مختلف الإتجاهات الفكرية والسياسية، ولعلها الوثيقة السياسية الوحيدة في فترة المعارضة العراقية التي تبلورت وصيغت بهذه الطريقة، أي مشاركة جماعية من قبل مستقلين وحزبيين، مدنيين وعسكريين، إسلاميين وعلمانيين، سياسيين ومهنيين. كما عقدت عشرات اللقاءات والاجتماعات والندوات لوضع وتعديل أفكار الإعلان وفقراته وبنوده.
فكرة الإعلان:
بعد احداث الحادي عشر من أيلول 2001 برز إهتمام الولايات المتحدة بتغيير نظام الحكم في العراق، وتبنت إسقاط نظام صدام حسين بالقوة العسكرية، وقد وجدت معظم فصائل المعارضة العراقية أن هذا التوجه الأميركي يمثل الخلاص من دكتاتورية النظام، بعد أن عجزت المعارضة العراقية عن إسقاطه قبل وطوال الحرب العراقية ـ الايرانية، وكذلك الإنتفاضة الشعبانية بعد حرب تحرير الكويت، كما فشلت خطط الحصار والمحاولات الإنقلابية وغيرها في الإطاحة به.
لقد كان شيعة العراق يتطلعون الى نظام ديمقراطي يعيشون في ظله مع بقية مكونات الشعب العراقي بحرية ومساواة في الحقوق والواجبات، ويتخلصون من التوجه الطائفي الذي طبع الحكم في العراق طوال الفترتين الملكية والجمهورية، رغم كونهم يشكلون أغلبية السكان. ولأن فترة ما بعد صدام حسين ستكون تأسيسية لمستقبل جديد، فقد كان لا بد من تحرك واسع لضمان حقوق الشيعة، وإنهاء فترات التمييز الطائفي.
جرت لقاءات اولية للتفكير في مرحلة ما بعد صدام، وكيفية التحرك من أجل ضمان حقوق الشيعة، وفق هذا التصور العام، فكانت اللقاءات الأولى تضم الدكتور علي علاوي والدكتور صاحب الحكيم وكاتب هذه السطور، وظلت اجتماعات هذه اللجنة متواصلة لعدة أسابيع حيث تعقد عادة في مكتبي ومنزلي، ثم بدأنا بتوسيع دائرة الحوارات والنقاشات بإشراك الشخصيات العراقية المعروفة بثقافتها وسعتها المعرفية وحرصها على الحقوق الشيعية وعلى الثوابت الوطنية، لغرض بلورة الأفكار الإساسية في هذا التحرك. وكحقيقة تاريخية يجب عليّ القول أن الغالبية الساحقة من الموقعين على الإعلان وعددهم أكثر من (300) كانت لهم لمساتهم وبصماتهم ورؤاهم التي تضمنها الإعلان.
بلورة الإعلان:
كنا نقوم بزيارات متكررة الى الدول الأوروبية والولايات المتحدة وإيران للقاء الشخصيات الشيعية والجاليات العراقية وطرح فكرة المشروع عليهم، وخوض النقاشات والحوارات معهم، مما ساهم في إثراء المسودات والنقاط الأساسية.
ومع تطور العمل خصصت في شركتي في لندن، مكتبا ًخاصاً مجهزاً بوسائل الإتصال للمتابعة والتواصل مع الشخصيات الشيعية في مختلف الدول، حيث تولينا مهمة التعريف بالفكرة وجمع الآراء والملاحظات ووجهات النظر على الأفكار الأساسية. وكان يجري بعد ذلك مناقشتها وعرضها على إجتماعات موسعة كنا ندعو لعقدها في مكتبي ومنزلي عادة، واحياناً في قاعات للإجتماع، تضم عشرات الشخصيات الشيعية، يتم فيها عرض كافة الآراء للمناقشة والتعديل في جو حواري مفتوح، وكنا نحرص على دعوة شخصيات من إتجاهات مختلفة لتمثل كافة الكيان الشيعي بانتماءاته الفكرية والسياسية والاجتماعية والمهنية.
كنا نقول دائماً خلال الاجتماعات أن إعلان شيعة العراق هو وثيقة إشترك في بلورتها وكتابتها كافة المساهمين فيها من شخصيات شيعية شاركت في النقاشات أو الحوارات أو أبدت رأيها في الاجتماعات أو اللقاءات أو الأحاديث الجانبية، وهذا مايجعلنا فخورين بهذا العمل الذي صاغته العقلية الشيعية وطرحته علناً ليكون وثيقة سياسية عن حقوق الشيعة، تم طرحها في فترة لم تكن الأمور قد اتضحت بعد فيما يتعلق بمستقبل العراق قبيل الإحتلال الأميركي الذي أطاح بنظام صدام الدكتاتوري.
إن الشخصيات الشيعية التي ساهمت في بلورة الإعلان وصياغة أفكاره، قدمت للعراق الجديد مساهمتين بارزتين:
الأولى: المساهمة في تثقيف الأجواء باتجاه أهم أسس الدستور العراقي الحالي وهي: (الديمقراطية، والفيدرالية وحقوق الانسان).
الثانية: تقديم تصور فكري وسياسي بديل عن مشروع الدولة الإسلامية الذي قامت عليه الكيانات الإسلامية الشيعية، وهو إنجاز مهم خدم العملية السياسية، من خلال طرح الدولة المدنية كبديل عن الدولة الدينية.
لقد وقع على وثيقة (إعلان شيعة العراق) أكثر من 300 شخصية شيعية من كافة الاتجاهات والتوجهات ضمت المفكر وعالم الدين والمثقف والحزبي والمستقل والاسلامي والعلماني وشيخ العشيرة والوجيه الإجتماعي والشخصية الأكاديمية والضابط العسكري وطيف واسع من المهن والانتماءات المناطقية والأسرية والمهنية.
إن تجربة (إعلان شيعة العراق) تدعونا لأن نجعل منه نموذجاً لعمل آخر نكرر فيه تلك التجربة الرائعة في التفاهم الجماعي، لبلورة وثيقة تعالج مشاكل العراق وتنهض به خدمياً وثقافيا واجتماعيا واقتصادياً وأمنياً في بناء الدولة المدنية الحديثة، وهو ما سيتم الإعلان عن شكله الأولي قريباً باذن الله تعالى بعد مجموعة من اللقاءات والحوارات والمقترحات التي تلقيناها من شخصيات عراقية مختلفة لها مكانتها في الساحتين الفكرية والسياسية.
والحمد لله رب العالمين
* مستشار الأمن القومي السابق، وأمين عام تيار الوسط العراقي