23 ديسمبر، 2024 12:00 م

إعلان المرجعية التاريخي الذي انتظرته منها منذ 2003

إعلان المرجعية التاريخي الذي انتظرته منها منذ 2003

«ليس لنا إلا النصح والإرشاد ويبقى للشعب أن يختار الأصلح».

هذا إعلان تاريخي للمرجعية.

مهلا لست من المتاجرين بالمرجعية ناهيك عن أن أكون من المقدسين لها، كما إني لست من المعادين لها، وهذا ما سأفصله لاحقا.

«إن المرجعية الدينية ستبقى سندا للشعب العراقي الكريم، وليس لنا إلا النصح والإرشاد إلى ما ترى إنه في مصلحة الشعب، ويبقى للشعب أن يختار ما يرتئي أنه الأصلح لحاضره ومستقبله، بلا وصاية لأحد عليه».

هذا ما جاء في خطبة الجمعة الأخيرة في 29/11/2019.

كنت إسلاميا يوم قلتها، واعتبروني لهذا السبب مناوئا للمرجعية، وسعوا إلى حذف اسمي من قائمة المرشحين للجمعية الوطنية، وها هو المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني يقولها بنفسه، نافيا بشكل قاطع لا يعتريه أي قدر من الشك، نسبته لنفسه، أو لأي فقيه، الولاية العامة على الأمة، أي ما يعرف بـ «ولاية الفقیه»، إذ «لا وصاية لأحد على الشعب»، أي يا ناس لا وصاية لي على الشعب، فلا تدعوا علي ما لا أدعيه لنفسي.

كنت قد كتبت مقالة نشرتها في جريدة البيان بعنوان «ليس هناك فتوى سياسية ملزمة» أو بعنوان قريب من ذلك، ومضمونها مثل قبل ذلك محاضرة لي في لندن عام 2002، وناقشت الموضوع بلغة شرعية، وأتيت بأدلة شرعية بحسب فهمي الشرعي آنذاك، على عدم إلزامية الرأي السياسي للمرجع، وعدم اعتباره فتوى شرعية تجعل المكلف آثما عند عدم التزامه به. بل اعتبرته مجرد رأي كأي رأي، وذلك لأن المراجع أنفسهم يقولون إن تشخيص الموضوعات الخارجية في الواقع هي من شأن المكلف نفسه، وبما أن السياسة هي من الموضوعات الخارجية، لأن القرار السياسي يعتمد تشخيص ما فيه نفع للأمة، وإذا كان لأمر ما منافع ومضارّ، فيوازن السياسي الخبير والمخلص بين النفع والضرر للشعب والوطن، وفي ضوء ذلك يتخذ قراره، وقد يجري تبادل بالأدوار، فيكون المرجع الديني مقلدا، والخبير السياسي مرجعا يرجع إليه حتى المرجع. وعندها نقل إليّ أن محمد رضا السيستاني (ابن المرجع) عاتب حزب الدعوة على تلك المقالة، وسألهم ما إذا كانت تمثل موقف الحزب، فنفوا ذلك، وقالوا بل هو رأي شخصي لضياء الشكرجي. وهذه المقالة وغيرها بنفس الاتجاه كانت السبب في عدي مناوئا للمرجعية، مما دعا حسين الشهرستاني عضو اللجنة المشكلة من المرجعية لتزكية المترشحين عل قائمة الائتلاف العراقي الموحد، يصر على حذف اسمي، حتى أعيد بما لا أريد إعادة تفصيله هنا.

أقول المرجع إذن يتطور كأي إنسان، وينمو وعيه الفقهي والاجتماعي والسياسي، وذلك بنمو تجربته. ففي 2005 كان هناك رأيان من القريبين أو مدعي القرب من المرجعية، فهناك من كان يقول إن المرجع السيستاني لا يؤمن بولاية الفقيه، ومنهم من كان يقول بل يؤمن بها، ولكن له فهمه الخاص لها.

ولكن بإعلان اليوم، الذي أسميته إعلانا تاريخيا، لم يعد شك بأنه ينفي ولايته على الأمة فهو كمرجع حسبما عبر «لا وصاية لأحد على الشعب»، وأن «ليس له إلا النصح والإرشاد»، مما يعني إن نصائحه حتى لو جاءت بصيغة الأمر أو النهي، فهي إرشادية، وليست ولائية، والعارفون بلغة الفقه والأصول يعرفون الفرق بين ما هو ولائي ملزم، تمثل مخالفته إثما، وبين ما هو إرشادي، لا يأثم من يخالفه. أما القرار فللشعب، إذ «يبقى للشعب أن يختار الأصلح»، وهذا يشبه إلى حد كبير قول الفقيه الراحل محمد مهدي شمس الدين «لا ولاية لأحد على الأمة»، أو «الولاية للأمة على نفسها».

وكنت في السنوات الأخيرة قدد توصلت إلى قناعة بأن السيد السيستاني يؤمن بولاية الفقيه، لا بالصيغة التي جاء المتطرفة بها الخميني، بل بما نظر له محمد باقر الصدر، حيث بحث في موضوعي «الشهادة» و«الخلافة»؛ الشهادة من خلال الآية «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»، والخلافة من خلال الآية «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، ونستطيع أن نعبر عن الدورين بلغة العصر، بأن الخلافة تعني إدارة العملية السياسية، والشهادة تعني الرقابة والترشيد والتصحيح، والنصح والإرشاد، فبينما يتحد الدوران حسب محمد باقر الصدر في شخص المعصوم، لكن مع عدم وجود المعصوم يفترق الدوران، فتكون الشهادة (الرقابة والترشيد) للفقيه، والخلافة (مباشرة العملية السياسية) للأمة مباشرة أو بممثليها. ولكني وجدت ما ذكر في خطبة اليوم نفيا قاطعا لولاية الفقيه على الأمة، وحصرها في الأمة نفسها، كما كان يذهب إليه محمد مهدي شمس الدين. لا أقول إن السيستاني تأثر بشمس الدين أو بالصدر، بل هو كما يبدو اجتهاده في الشأن السياسي عام 2019، بقطع النظر عما إذا كان يعتمده من البداية، وأعلنه اليوم، أو هي رؤية فقهية مستجدة عنده، ولدت من رحم التجربة السياسية. فبرأيي كما إن المفكر تسهم التجربة في تنضيج وترشيد فكره، يمكن للتجربة أيضا أن تلعب دورا في تنضيج فقه الفقيه، علاوة على ما يسميه البعض بذوقه الفقهي.

فأين قول المرجع اليوم من قول همام حمودي في الجلسة الافتتاحية لأعضاء الجمعية الوطنية من الائتلاف العراقي الموحد عام 2005، عندما قال «إذا أمرتنا المرجعية بحل الجمعية الوطنية سنحلها». ولو إني أكاد أجزم إنه قالها متاجرة أكثر مما هي قناعة، لأن المجلس الأعلى المؤسس أصلا من قبل الإيرانيين، كان قوله مع النجف على نحو المتجرة، وقلبه مع قم وطهران على نحو القناعة والولاء.

وكأني بالمرجع يقول لعادل عبد المهدي الذي أعلن استقالته بعد سماعه لخطبة هذه الجمعة، ما كان عليك أن تنتظر الرأي مني، لأن الشعب اتخذ قراره في وجوب تنحيك عن منصبك، وكان عليك أن تستجيب لمطلب الشعب، لأنه إنما «يبقى للشعب أن يختار الأصلح»، واختار الشعب إقالتك.

ما أعلنته اليوم المرجعية، بقطع النظر عما كانت تقصد ذلك أو لم تقصده، لكن من حيث النتيجة، كان بتقديري صفعة وجهت إلى المتاجرين بالمرجعية، سواء عادل عبد المهدي أو نوري المالكي أو عمار الحكيم أو هادي العامري أو حيدر العبادي، أن كفوا عن المزايدة بالولاء لي، والمتاجرة باسمي. كما كان ذلك صفعة لولاية الفقيه ولخامنئي، ألا لبئس النظرية الفقهية نظريتك ونظرية المؤسس سلفك.