23 ديسمبر، 2024 10:53 ص

إعادة النظر في علاقة احترافية الإعلام بجودته       

إعادة النظر في علاقة احترافية الإعلام بجودته       

أصبحت “صحافة المواطن” هو المصطلح الأقدم ولعله الأكثر شيوعا اليوم في المنطقة العربية. وصاغت هذا المصطلح الباحثة الكولومبية كليمينسيا رودريغيز (2001) Clemencia Rodriguez صاحبة مصطلح “إعلام المواطن” من خلال كتابها (المفارقات بين الإعلامي المطبوع والرقمي) . في هذا الكتاب استخدمت رودريجز تحديدا تعبير “صحافة المواطنين”، لتصف بها الممارسات الإعلامية للمجتمعات البعيدة عن المدن الكبرى، والتي استهدفت تقديم تغطية اخبارية لذاتها في ظل غياب تغطية وسائل الإعلام الكبرى بالدولة لها.
واختارت الباحثة الكولومبية مصطلح ‘المواطن’ لأن المواطنة هي المظلة التي يمكن أن تغطي الجميع، وخصوصا مجتمعات السكان الأصليين والمهمشين. وقد كان ولا زال يشار إلى هذه الظاهرة الإعلامية باستعمال مصطلحات متنوعة من قبيل “الصحافة التشاركية” (participatory journalism)، و”الإعلام مفتوح المصادر” (open-source media)، و”الإعلام الديمقراطي” (dimocratic media)، و”صحافة الشارع” (street journalism)، و”الإعلام البديل” (alternative media)، و”الصحافة الشعبية” (grassroots journalism) إلى غير ذلك من التسميات والمصطلحات التي كانت قد طورت من طرف الباحثين في هذه الظاهرة الإعلامية والمنظرين لها.
ومنذ نحو عشر سنوات برز مفهوم “الإعلام الإجتماعي”، وتزايد استخدامه في المنطقة العربية بعد الإنتفاضات في المنطقه العربية التي حدثت عامي 2010 و2011. والمعنى الإصطلاحي له أنه عملية صناعة محتوى بشكل جماعي قائم على شيوع الأدوار، بحيث يمكن لأي فرد القيام بأي دور لتكميل وتطوير المحتوى أو تداوله. غير أن “الإعلام الإجتماعي” صار معناه الإجرائي في العالم العربي هو القنوات- ذاتها- التي يتم من خلال نشر المحتوى، أو ما تعارف على تسميته أيضا “الشبكات الإجتماعية”. أي أن “الإعلام الإجتماعي” أصبح تعريفه هو الوسيط نفسه لا عملية إنتاج المحتوى.
 لكن ما معنى أن يكون الإعلام إجتماعياً أو غير إجتماعي؟ الإجابة على هذين السؤالين تأخذنا إلى الوراء قليلا، كيف كان الإعلام قبل أن يصبح “إجتماعيا”؟ اعتمد الإعلام بالأساس على علاقة بين (مرسل) و(مستقبل) تتم عبر الوسيط، المرسل هنا هو الإعلامي والمستقبل هو الجمهور، والوسيط هو الصحيفة أو شاشة التلفاز أو غير ذلك. وغرض هذا العلاقة هي نقل المحتوى، أو ما يسمى أحيانا  الرسالة الإعلامية وهي علاقة تقوم على استهلاك الجمهور لهذا المحتوى، ويدفع مقابلاً ماليا نظير ذلك، في المقابل، يصيغ الإعلامي المحتوى بما يتوافق مع احتياجات الجمهور، ويستبعد ما من شأنه تقليل استهلاكهم للمحتوى.
هذا النموذج القديم للإعلام يثبت ثلاث نقاط، أولا: أن العملية الإعلامية قائمة على إنتاج محتوى وتسويقه، فالأدوار فيها موزعة على نحو (منتج) و(مستهلك)، و ثانيا: ربحية الإعلام تعتمد أساسا على استهلاك الجمهور لمحتواه، وثالثا أن الإعلامي يستبعد من المحتوى مالاً يحقق الربحية.ومسألة توزيع الأدوار بين منتج ومستهلك أو إعلامي أو صحافي ومتلقي أو جمهور، خلقت نموذجا تتحرك فيه الأخبار في إتجاه واحد، من الإعلاميين إلى الجمهور، وهو ما يسمي “البث” ويقابله في الإنجليزية Broadcasting.
أما استبعاد بعض المواد الخبرية عن المحتوى الإعلامي، أو إعادة ترتيبها، أو منحها الأولوية وفقا لما يحقق  الربحية، فهي عمليه أسماها منظّرو الإعلام “حماية البوابة” ترجمة للمصطلح الذي صاغه عالم النفس الإجتماعي كيرت لوين عام 1943.
1.                        تتحرك المعلومات خطوة بخطوة عبر القنوات. ويتباين عدد القنوات ومقدار الوقت في     كل قناة.
2.                        يجب أن تمر المعلومات من “بوابة” لتنتقل من قناة للتالية، وهكذا
3.                        تتحكم القوى في القنوات، فقد تكون هناك قوات نفسية معارضة تسبب الصراع الذي يخلق مقاومة للحركة عبر القناة.
4.                        قد يكون هناك العديد من القنوات التي تؤدي إلى نفس النتيجة النهائية.
5.                        قد تتحكم عوامل مختلفة في القنوات وتكون بمثابة حراس في أوقات مختلفة.
 أما فيما يخص الربحية فهي عملية أكثر تعقيداً من كونها مجرد تحقيق أكثر انتشار للمحتوى، بالتالي جني أكبر قدر من المقابل المادي له. ومنبع التعقيد هو الحساسية وأحيانا التعارض بين ما يريده الجمهور وما تسمح به قوانين الدولة أو مناخها العام، على سبيل المثال، إذا هناك دولة لا يتمتع نظامها بالشفافية، و يريد الجمهور معرفة حجم ثروة  أحد الحكام، إذا تتبع الإعلام ذلك، سوف يتعرض مالك الوسيط الإعلامي (الصحيفة أو محطة التلفزة) والإعلامي إلى المساءلة أو المضايقة من جانب الدولة. في هذه الحالة يوازن الإعلام بين ربحيته وقابليته للإستمرار، عن طريق اتباع سياسات تحريرية مختلفة حسب كل دولة وقوانينها.
أذن صار الإعلام أكثر “إجتماعية” يعني أنه أصبح على نموذج جديد يختلف عن هذا السابق، استبدل مفهوم “التشاركية” بممارسة “البث”، بحيث أن أكثر من شخص يقومون بصناعة المحتوى الإعلامي، منهم من هو إعلامي بالمهنة ومن هو فرد من الجماهير، بالتالي أضحت  العملية الإعلامية أقل استهلاكية، لأن الجمهور أيضا يستطيع صناعة المحتوى. أما الوسيط الإعلامي، فقد ظهر منه المزيد، حيث أن شبكات التواصل الإجتماعي هي منصات للنشر، أغلبها مجاني. وهي “إجتماعية” لأنها قائمة على التشاركية، بمعنى أن المستخدم يستطيع تناقل المحتوى، والإضافة إليه، وتقييمه، أو حجبه عنه، أو مطالبة الشركة صاحبة الشبكة بحجبه عن جميع المستخدمين. وتفترض الشركات المصنعة لهذه الشبكات أن المستخدمين مستعدين وموافقين على تحقيق التشاركية فيما ينشروه من محتوى، بالتالي تعتمد على إتاحته. التغيير الكبير الذي أحدثه وجود هذه الشبكات فيما يخص صناعة الإعلام، أنه سمح لأفراد أن يؤدوا العمل الإعلامي، بعكس النموذج القديم المعتمد كليا على مؤسسات.وهنا يجوز لنا إعادة النظر في علاقة احترافية الإعلام بجودته، هل الصحافي المحترف لدى مؤسسة ينتج مادة أجود من الفرد المشارك في العملية الإعلامية عبر شبكات التواصل الإجتماعي؟ الصحافة هي ممارسة إجتماعية وفقا لمعايير وأخلاقيات، بالتالي فإن من يحقق هذه الممارسة الإجتماعية وفقا للمعايير والأخلاقيات التي حددها الصحافيون يصير صحافيا أيضا، حتى لو لم يمتهن الإعلام بشكل الحرفة أو الوظيفة التي تدر دخلا ماديا. بعبارة أخرى، الصحافة هي إطار فكري أو (أيدولوجية). وهي الفكرة التي تبناها باحثون  مثل جولدينج وإليوت وسلوسكي  ومارك دزا.