تغادر الشعوب عاداتها وتقاليدها بسبب احتكاكها بالحضارات. بعد أعوام، تستذكر أجيالها بعض عادات الأجداد، يحيونها للتذكر والموعظة. لكن، تفنى الدهور ولا تزال عادات بعض الناس كما هي؛ منها عادة إطلاق العيارات النارية في مجتمعنا.
نبدأ، التهديد بالسلاح، ثم إطلاق النار على الآخر، بعدها تبدأ رحلة القانون، لتنتهي بالتصالح، أو نبدأ بالقتل ثم بالفصل العشائري.
السؤال: لماذا لا نبدأ بالعكس؛ التفاهم والتصالح ؟..حتى لا نجهل فوق جهل الجاهلينا.
كم هي خسائر الأرواح والممتلكات، كم تترك من أمراض جسمية وعقلية ونفسية نتيجة الخوف من صوت الطلقة أو مباشرتها الجسد؟.
في ازعوماتنا:(السلاح أخو) لذلك، لا يمكن إشهار البطاقة الحمراء بوجهه. فمتى يحاسب العراقي على السلاح؟.
يقولون لحظة فرح بالفوز العراقي.
تستمر المباريات 90 دقيقة ويستمر إطلاق النار أكثر. لقد تركت هذه(الفرحة)عاهات مستديمة جسمية ونفسية كالفزع، لدى الكثير من الناس الذين لا يحبون كرة القدم. ما ذنبهم، لقد سقط على بيوتهم الطلق مثل(الملبس والجگليت)؟.
انه انحدار الى ما تجمع في دواخلنا من سلوكيات البداوة والريف وغذته المدينة، بألعاب الأطفال القتالية وأفلام العنف، وصولا الى جريمة القتل اثناء التشجيع.
هذا السلوك ليس مديني، انه بذرة في اللاشعور الجمعي الذي أتخذ من مقولة(السلاح أخو)، بحيث اتحاد الطلقات، يشعرنا بالأخوة، التي تهزم انقباض النفس وخساراتها. انها، نفسية معطوبة تعالج المشكلة بالمشكلة، تحاول تبديد الفشل في داخلها، تفتخر أمام الأنظار بنوعية السلاح وعدد الطلقات وكيفية الرمي، ثم بعد ذلك يبدأ تأنيب الضمير، حتى على لسان الرامي، يقول لك هذا(غلط).
تهشيم زجاج النوافذ والسيارات وحرائق مولدات و تلف خزان ماء بيوت الناس،إزعاج الطالب والمريض وكبير السن..الخ كل هذا وأكثر لفوز الفريق.
تعبر الشعوب بالماء والورد والمسير العفوي، تستذكر الحدث الجمعي، تحييه كل عام، لكننا ننساه بسرعة الطلقة التي ضربنا بها أنفسنا المقهورة، المستضعفة، التي ترى الكون أذلها، لذلك ترميه بطلقة. انها إطلاق للمشاعر الحبيسة التي ينهى عنها المجتمع، فالاعتداء لاشعوريا على هذا المجتمع وقوانينه يخفض الضغوط النفسية التي توارثها وبدوره يصدرها الى الأجيال القادمة. هذا اللاوعي الجمعي في حياتنا هو نفسه يقودنا في كل المناسبات التي نستبعد العقل الواعي فيها !.
المباريات تشكل مهرجانا، تطلق حماسا منقطع النظير، تخلق ما يشكل تلاشيا لحدود اللقاء الإنساني، بحيث تكاد الكرة الأرضية التي يتوزع فيها الجمهور العراقي لأسباب كثيرة، تتحول الى كرة قدم. إنها المتنفس الإنساني في الجماعة لدرجة الذوبان في(النحن). لحظات استعادة للذات، في تجربة جماعية تدخل التوازن الى النفوس المعذبة بالغربة والقهر والهدر والفقر والمرض والتهميش.
لم تعد المباريات متعة، بل إبدال قضايا الوجود في آمالها وأحلامها تطلب الثأر!. ان تفجر ظواهر لا إنسانية دالة على العنف تشير الى إزاحة الإحباطات من مواقعها الأصلية الى بدائل مثل كرة القدم. الفوز؛ هو القفز فوق حاجز البؤس، العراقي يهتف(العراق صاعد صاعد/على عناد كل حاقد)، حتى خانق الفرح يطلب(يلا فرّحونه).
في عراقنا، تهدر العادات الإنسان بعضه كله، بدلا من نمائه، المقهور يخجل من ذاته، يعيش في حالة دفاع دائم ضد افتضاح بؤسه، يخشى ألا يقوى على الصمود. لذلك، فإن جدلية الحياة، ما يخفي وما يبطن، تجعله يعيش تهديد دائم بفقدان توازنه من خلال فقدان دفاعاته، وتعري حياته التي يجتر مأساتها. همه الأول اجتياز الامتحان وتحاشي نظرة الآخرين الى جرحه النرجسي بالسؤال:(شفتو لاعب بالملاعب يلعب وأيده على جرحه ؟).
بقاء الرأس مرفوع، الاحتماء من كلام الناس، قضايا مصيرية بالنسبة له. لذلك، العراقي(عنده غيرة)، يستطيع أن يعيش بدون خبز، لكنه يفقد كيانه الإنساني إذا فقد كرامته، التي تمثلها كرة القدم، وكرة القدم لا تعدو أن تكون سوى جلدا منفوخا، من يقل لي غير ذلك ؟ فهو باطل. إذا قلنا مشاعر، إذن، الحزن ضخم جاثم تحت قشرة من الفرح الكروي، رغم ان الفرح انفعال لحظوي؟.
ليس لب الانحراف، الإقدام على هذا التصرف، بل الخرق تجاه الأشخاص، أو الملكيات، انه مادي دوما، لكنه عنف رمزي. ليس مادية الفعل، لكن دلالته التعبيرية، مؤشر للدلالة على ما يعتمل باطنيا في بنية المجتمع من اضطراب، وما يتراكم فيها من عدوانية كامنة، قابلة للانفجار في أية لحظة فوز أو خسارة !. انها حرمات يحاسب وينهى عنها الدين والقانون والمدرسة والضمير..الخ لكن السؤال الجوهري: متى يطبق العالم علمه، الصادق صدقه، المثقف ثقافته، ألف متى ومتى بيده وقلبه ولسانه، الى متى لا يطلب غير المتعلم تعليمه أو ينهى هؤلاء هؤلاء ! ؟.