تشدني ـ بحكم التخصص والاهتمام القديم بسماع الآخرين ـ كتب المذكرات المقروءة والشهادات المرئية التي تقدمها شخصيات كانت جزءاً من المشهد السياسي العربي ولوقت طويل، والتي تميزها مستويات القرب من دوائر صنع القرار والعلاقة التي كانت تربطها بالحكام مما ممكنها الاطلاع على خبايا وخفايا الأحداث وبشكل لم يتح لغيرها.
وذلك يعد من نعم التطور في وسائل البث والإعلام والاتصالات مما أزال بشجاعة ذلك الستار الحديدي الذي كان يحجب الجمهور عن حقيقة ما يحدث.
لعقود طويلة، ظلت صورة بعض الزعماء، والتصورات المتعلقة بحقب تأريخية كثيرة، بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، تحيطها هالة من السطوع والتبجيل، والفخر الذي لا تحده حدود، وهي صورة رسمتها دوائر الإعلام والتخطيط السياسي لها وعبر مسارات من الرؤى والرسائل التي رسخت معانيها في نفوس الشعوب داخلها من جهة وعبر امتداد الوطن العربي برمته من جهة أخرى.
وبطبيعة الحال جرت بموازاة ذلك شيطنة صورة المخالف، والتشنيع على كل طرف معارض، وعدم ترك أي نقطة التقاء وسطى تجمع بين الطرفين، فلا خيار ولا مرونة ولا تعدد حتى على مستوى التخيل!
تأتي الشهادات آنفة الذكر ـ وهي عديدة ولا تتعلق ببلد أو شخص دون آخر ـ لتحطم تلك الهالة الوهمية، وتعيد تعريف الأشياء، وترتيب المواقع، وكشف الحقائق، وتصحيح المفاهيم.
لقد اظهرت اكذوبة الزعيم المنقذ، الحريص على وطنه، فالكثير من الأسماء اللامعة لم تكن إلا نماذج صارخة لدكتاتورية بغيضة ملأتها النرجسية المفرطة، وتضخمت عندها (الأنا) إلى حد التخمة وصولاً إلى مرحلة الاذعان لكل طرف قوي والتنازل عن ثوابت ظل يتغنى بها ليل نهار طواعية من أجل البقاء على كرسي الحكم!
وكشفت من جانب آخر وهم التنمية والتطور والتقدم الذي صدّعت به الرؤوس، فكل ما أنجز عبارة عن غطاء كاذب لامع لمضمون أجوف فارغ!
ثم، أي مستنقع بائس هو ميدان السياسة، فساد، وتردي، وتحطيم للمعاني الأخلاقية، ومتاجرة بالمبادىء، وعدم التورع عن استخدام أي سبيل مهما كانت قذارته لتحقيق هذا الهدف الكؤود!
والإنسان وسط هذا السوق الكبير هو أرخص بضاعة، لا قيمة لحياته وكرامته وحاضرة ومستقبله، فالمطلوب أن يظل فداءً لحياة القائد الملهم الذي ظل مستمتعاً بأجواء المديح الذي اتقنه نفرٌ ممن أجادوا تغيير حقائق الأشياء!
أما جانب المعارضة ـ حتى لو كانت بناءةً وسلمية ـ فالصورة قاتمة في ظل السجون والمعتقلات والتعذيب الذي يصل حدّ الوحشية المفرطة يندى لها الجبين!
التأريخ يجب أن يكتب من جديد.. قديماً وحديثاً.. ولا بد من اعادة تموضع الشخصيات والأشياء مرة أخرى لتأخذ حظها الحقيقي وتظهر وجهها الذي حاولت عمليات التجميل أن تغير ملامحه لسنوات طوال، فجاءت تلك الشهادات المضيئة لتظهر كم هو مظلم ذلك الزمان!