23 ديسمبر، 2024 5:49 م

إشكالية حديث: النص والتاريخ إشكالية حديث: النص والتاريخ

إشكالية حديث: النص والتاريخ إشكالية حديث: النص والتاريخ

قامت شهرة قريش وبنيتها القبليّة في بطحاء مكّة على أثافي أسريّة ثلاث: بنو هاشم، وبنو أميّة، وبنو مخزوم، وكانت تتنازع الجاه والعزة والسؤدد، وتتقاسم السيادة. في القرن السادس للميلاد انتظمت السيادة الاقتصاديّة لبني مخزوم وبني أميّة، وبرزت السيادة الدينية لـ “عبد المطلب بن هاشم”، لبُعده أو إبعاده عن عالم التجارة، وعنايته بالفضاء الدينيّ، وكثرة اختلائه وتصوّفه في غار حراء، وبخاصة، إثر حفره بئر زمزم، وترشحه للقاء “إبرهة الحبشي”. ظل الإتجاه الديني سِمة هاشم حتى تمخض منها النبوّة في محمّد بن عبد الله، وأعلن عن مبعثه في دين جديد، قوامه التوحيد والإسلام لله. في حين اقتسم بنو أميّة، وبنو مخزوم زعامة قريش في مواجهة الدين الجديد بطرائق شتى، من الحوار السلميّ الى المقاطعة والعنف المسلّح، ونزلت في كفرهم وقسوتهم الآيات القرآنية المكيّة، ومنها ما يخص موضوع البحث، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم28)، وقد فسروا الآية بالحديث، قال مقاتل (تفسير2/ 191): هم بنو أميّة، وبنو المغيرة المخزومي.  أضاف سفيان الثوري (تفسير 157) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب، قَالَ: هُمَا الأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ، فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَقَطَعَ اللَّهُ أَدْبَارَهُمْ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حين. وفي إثرهما دوّن جمهرة المفسرين(*1).

تكمن الإشكالية في الاتجاه النصيّ والاتجاه التاريخيّ في الحديث النبويّ «إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَتْلًا وَتَشْرِيدًا، وَإِنَّ أَشَدَّ قَوْمِنَا لَنَا بُغْضًا بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو مَخْزُومٍ». الحديث رواه نُعيم بن حمّاد، عن الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وأخرجه الحاكم النيسابوري (المستدرك 4/ 534)، بزيادة أَبِي نَضْرَةَ في السند عن الخدري، وقال:”هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَهُ الشيخان ” ونقله عنه (*2) علماء الجمهور، وابن طاووس من الشيعة.

الاتجاه النصي: نلحظ في الشطر الأخير من نص الحاكم ثلاثة بيوت من قريش، أسّست البغض لآل هاشم، وهم” بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو مَخْزُومٍ”. وهو خطأ محض، لأنّ بني المغيرة بيت من مخزوم، فهو المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرَّة، (ابن حبيب، المحبّر، ص13)، ومخزوم ابن عم قصي بن كلاب بن مرّة، جد هاشم وأميّة. فهما بيتان لا ثالث لهما، ويحقق صحّة قولنا ما نصّ عليه نُعَيْم بْن حَمَّادٍ (الفتن 1/ 131)« وَإِنَّ أَشَدَّ قَوْمِنَا لَنَا بُغْضًا بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ»، ومن هنا تفيد التبعيض، كي يستقيم المعنى. وقد أضاف ابن أبي الحديد (نهج8/302) بيتا ثالثا في رواية الحسن البصري:” أن رسول الله لعن ثلاثة بيوت: بيتان من مكة، وهما: بنو أمية، وبنو المغيرة، وبيت من الطائف، وهم ثقيف”. وهذا يحصر المعنى في زمن الرسول لما لقيَ وأصحابه من عنت وأذى في مكّة.

الاتجاه التاريخي: يحمل النصّ بعدًا تاريخيّا مستقبليًّا، يؤكده لفظ “سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي”، تتوقف خلاله عجلة التاريخ عند دولة بني أميّة التي اضطهدت بني هاشم، والعلويين بخاصة، أي أنّه لم يشمل الدولة العباسيّة التي كانت اكثر تشدّدا، وأدهى وأمرّ على آل الرسول، كما قال الشاعر:    والله ما فعلت أميّة فيهم . . . معشار ما فعلت بنو العباس      (العاملي، أعيان الشيعة 1/ 28).

كانت العلاقات الاجتماعية بين الأسر القرشيّة قائمة على النسب في الإنتماء، والسبب في الزواج، والمنادمة بين الأقران من أهل الوجاهة والثراء، وكانت من التقاليد التأهيليّة، ومجالسهم المشهورة في تداول القصص والشعر، ومشاركتهم في تسيير قوافل التجارة، هي جميعا تشكل معالم الضبط الاجتماعيّ، وتحفز على التعايش السلميّ في مكّة. ولا شك أنّ الزواج من أمتن الروابط الاجتماعيّة، في ضوء مخرجاته ثمّة شباب يعتزّون بأخوالهم، فقد كان أبو طالب يفخر بخاله الوليد بن المغيرة(*3)، عدل قريش، ويرثي خاله هشام بن المغيرة(*4)، وكان جعدة بن هبيرة المخزومي يفخر بخاله (*5) علي بن أبي طالب ويعتزّ به ويسانده في الحرب والإدارة، ويقابله الإمام بالإحتفاء والرعاية، وكان الإمام علي يمدح مخزوم، ووصفهم بـ”ريحانة قريش” (ابن أبي الحديد، نهج البلاغة 18/286). وهذا التقارب فتح صفحة جديدة من علاقة يسودها الودّ والمحبّة.

من جانب آخر، أنّ أزمات الخلاف الشخصي -في أبعاد الوجاهة والثراء والمصالح- كانت تُعيق الحياة وتشكّل نقطة سوداء في جبين العلاقات الأسريّة، نحو خلاف أميّة بن عبد شمس مع عمّه هاشم بن عبد مناف، ومنافرته له على وجاهة قريش، ومن ثم منافرة عبد المطلب لحرب بن أميّة، وهو نديمه، في يهودي كان جارا لعبد المطلب عضَلَه حرب. تلتها منازعة ابي سفيان صخر بن حرب للرسول محمّد منذ بعثته، تفاقمت الخلافات الأسريّة بمنازعة معاوية بن أبي سفيان للإمام عليّ، خليفة المسلمين، وقامت بينهما حروب، ثم اختتمت رحلة الخلاف بمقتل الامام الحسين المأساوي علي يد يزيد بن معاوية. 

في الإسلام التاريخي تقاسم العلويون والأمويون نمطَيّ السياسة: السلطة والمعارضة، وجرت بينهما دماء، وحدثت معارك رسمت تراجيديّة الكراهيّة بينهم. في حين إنّ مخزوم اعتزلت السياسة، وبخاصة بعد وفاة خالد بن الوليد (20/641)، الذي قاد الفتوح في العراق والشام، أو لم تحظَ بفرصة للولوج الى السياسة، أو كما قال الإمام علي -في أعلاه- :” فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَقَطَعَ اللَّهُ أَدْبَارَهُمْ”. بيد أنّ التاريخ لم يسجل لهم أنّهم أدّوا دورا رجّح كفّة الصراع لصالح أحد طرفي المعادلة، ولذا لا تجد لمخزوم ذكرا في قبائل الكوفة وشخصياتها إزاء المشاركة في معركة الطف (61/681) ومأساة أهل البيت في كربلاء، لا لصالح الحكم الأمويّ، ولا لصالح الثورة الحسينيّة. من هنا يجدر القول أنّ صدرَ الحديث ” إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَتْلًا وَتَشْرِيدًا” لم يكن مصداقا لتوقعات النبيّ المعصوم، ولم يتناسب مع عجزه ” وَبَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو مَخْزُومٍ” على نحو مطلق، وكنّا قد ضعفناه نصيًّا.

نخلص من مجموع الفرضيّة النصيّة، والفرضية التاريخيّة، أنّ الحديث أصابه الوضع في آخره، الذي لم يأتِ منسجما مع النص كاملا، ومع نفسه كان مفككا، ويبدو أنّ الوضع سرى إليه من رواة العصر الأموي، ليخففوا عن كاهل بني أميّة من وزر المآسي المروعة التي أحدثوها، في مشاركتهم مع غيرهم من الأصول القبلية لقريش، وحشرهم مع الناس عيد ومواساة، تضمر فيه الحقيقة التاريخيّة، وتضيع المأساة سهاما موزعة على القبائل. أحسب هنا أنّ البحث أجلى الغموض عن وجه النص، لذا ليس ثمّة حاجة الى النظر في سند الحديث، وقد جرح بعض رواته، او المعاينة في مصداقيّة نُعَيْم بْن حَمَّادٍ وكتابه الفتن، وفيه حديث. 

هامش………………………………….. 

(*1) الإسكافي: المعيار، ص 299؛ العياشي، تفسير 2/ 229؛ ابن أبي حاتم، تفسير 7/ 2247؛ النيسابوري، إيجاز البيان 1/ 461؛ الطبري، تفسير 13/ 221؛ الحاكم، المستدرك2/ 352، ابن مردويه ، 165؛ المقريزي، إمتاع 12/ 301؛ الصالحي، سبل 10/ 152؛ السيوطي، الدر المنثور 5/ 41؛ المتقي، كنز العمّال 2/ 444.

(*2) الحاكم، المستدرك 4/ 534؛ ابن حجر، إتحاف 5/ 442؛ المتقي،  كنز العمال 11/169؛ الهيتمي، الصواعق 2/527، 2/ 685؛ ابن طاووس، الملاحم، ص 83

(*3) هلم إلى حكم ابن صخرة إنه … سيحكم فيما بيننا ثم يعدل

      كما كان يقضي في امور تنوبنا … فيعمد للأمر الجميل ويفصل    ابن حبيب، المحبر، ص 337

(*4) فَقَدنا عَميدَ الحَيِّ فَالرُكنُ خاشِعٌ … لِفَقدِ أَبي عُثمانَ وَالبَيتُ وَالحِجرُ

     وَكانَ هِشامُ بنُ المُغيرَةِ عِصمَةً … إِذا عَرَكَ الناسَ المَخاوِفُ وَالفَقرُ

         بِأَبياتِهِ كانَت أَرامِلُ قَومِهِ …  تَلوذُ وَأَيتامُ العَشيرَةِ وَالسفرُ

     فَوَدَّت قُريشٌ لَو فَدَتهُ بِشَطرِها … وَقَلَّ لَعَمري لَو فَدَوهُ لَهُ الشَطرُ   ديوان أبي طالب، ص46

(*5) أنا من بني مخزوم ان كنت سائلا * ومن هاشم أمي لخير قبيل

       فمن ذا الذي ينوء علي بخاله * وخالي علي ذو الندا وعقيل     النعمان المغربي، شرح الأخبار 3/244

أهم المصادر………………………….

الإسكافي، أبو جعفر (ت220)، المعيار والموازنة، حققه: محمد باقر المحمودي، د.ط، 1402 /1981 م

ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي، الرازي (ت 327هـ) تفسير ابن أبي حاتم، حققه: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط3، 1419 هـ

الحاكم ابن البيع النيسابوري (ت405هـ)، المستدرك على الصحيحين، 4ج، حققه: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411/ 1990

ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني  (ت852هـ) إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، 19ج، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة، 1415 هـ/ 1994 م.

ابن أبي الحديد(ت656هـ)، شرح نهج البلاغة، حققه: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي ، القاهرة.

الثوري، سفيان بن سعيد الكوفي (ت161هـ)، تفسير سفيان الثوري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م

الصالحي، محمد بن يوسف الشامي (ت942هـ)، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، 12ج، حققه: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ/ 1993 م.

ابن طاووس (ت664هـ)، التشريف بالمنن في التعريف بالفتن ( الملاحم والفتن )، مؤسسة صاحب الأمر، أصفهان، د.ت.

العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي(ت320هـ)،حققه: هاشم الرسولي المحلاتي،المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424/ 2003م

المتقي الهندي(ت975هـ)، كنز العمال، مؤسسة الرسالة، بيروت ،1409/1989

ابن مردويه، أحمد بن موسى الأصفهاني(ت410هـ)، مناقب علي بن أبي طالب، دار الحديث، قم.

المقريزي، تقي الدين، أحمد بن علي ، (ت 845هـ)، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، 15ج، حققه: محمد عبد الحميد النميسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420 هـ/ 1999 م.

نعيم بن حماد الخزاعي المروزي (ت 228هـ)، كتاب الفتن، حققه: سمير أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة، 1412.

النيسابوري، محمود بن أبى الحسن (ت 550هـ)، إيجاز البيان عن معاني القرآن، حققه: حنيف بن حسن القاسمي، دار الغرب الإسلامي، بيروت،  1415 هـ. 

الهيتمي، أحمد بن محمد بن (ت 974هـ)، الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، 2ج، حققه: عبد الرحمن بن عبد الله التركي، كامل محمد الخراط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ/ 1997م.