منذ أن دخلت مفردة (المثقف) حقول التداول المعرفي كمفهوم مشبع بالدلالات الاعتبارية الخاصة ، وشرعت مضامينها تتسرب إلى مختلف أدبيات العلوم الإنسانية ، كتعبير عن العمق في الوعي والحذق في السلوك والتواصل في العلاقات والانهمام بالإشكاليات والاندغام بالصراعات ، لم تطرح مسألة (المرجعية الفكرية) للمثقف على بساط البحث النظري وتوضع تحت مجهر الفحص والتدقيق المنهجي ، بغية الكشف عن طبيعة التوجه الإيديولوجي الذي تفرض التخندق فيه ، وإماطة اللثام عن نمط المخيال الرمزي الذي تهيمن عليه ، وتسلط الضوء على خبايا المجال النفسي الذي تتحكم به . ليس فقط عبر خروم المواقف وثقوب التصورات التي تندّ عن ذات الفاعل الاجتماعي (= المثقف) ، حين يتصدى لمعالجة ظاهرة من الظواهر الاجتماعية ، أو يسعى لحل مسألة من المسائل السياسية فحسب ، وإنما من خلال انزياحات معايير المصالح التي تستثير رغباته ، وتذبذب بندول أنماط الغايات التي تستدرج طموحاته . وعليه فان تعاطي سوسيولوجيا المعرفة التقليدية مع هذه القضية الجوهرية ، كان في السابق ينطلق من افتراض إن (المرجعية الفكرية) هي بمثابة مسلمة عرفية أو بديهية منهجية ، لا تحتاج إلى دليل إثبات أو حجة برهان ، لكي يقال إن خطاب المثقف ودلالة نصه ما هي إلاّ واجهة أو أداة عاكسة لاصول ثقافية متنوعة ؛ تبلورت في وجدانه وترصّنت في عقله ، بفعل تواصل الأجيال وتراكم المعارف . هذا في الوقت الذي شهدت فيه علوم الإنسان والمناهج البحثية المنبثقة عنها والمتصلة فيها ، شأوا”بعيد المدى وشديد الاتساع في مضمار التطور العلمي والاغتناء المعرفي . للحد الذي لم تعد تجدي معه محاولات الترميم السطحي ومساع الترقيع الشكلي ، للتغطية على أي كيان اجتماعي بات آيل إلى الجمود وماثل إلى التحجر ، ما لم يتخطى عتبة طفولته الثقافية ويتخلى عن مرتع أوهامه الحضارية ، التي أمست تعيق حركته وتمنع تقدمه وتشل قدرته وتسهم في شدّه إلى الوراء . ولأجل أن نتحقق من آلية عمل (المرجعية) في تكوين سمات المثقف وبلورة خصائصه المعيارية ، وقياس مستوى الاستحواذ الذي تمارسه على مختلف اهتماماته الإبداعية في المجالات ؛الفكرية والأدبية والفنية ، والوقوف ، من ثم ، على درجة الأهمية التي باتت تشغلها في إطار توجهاته السياسية وتحديد خياراته الإيديولوجية ، فانه من الضرورة بمكان القيام بعملية تحقيب افتراضي للفترات التاريخية التي حملت خصائص هذه المرجعية أو تلك ، وأطّرت من خلال أوالياتها وعي المثقف وألزمته بانتهاج هذا المنحى وتبني ذاك الاتجاه . ولكي نقترب من الواقع الاجتماعي ونحايث المعطى التاريخي ، حري بنا اتخاذ تجارب المثقف العربي عامة وقرينه العراقي خاصة نموذجا”للمقارنة في هذا الشأن ، لاسيما وان الغالبية العظمى من أقطار المحيط العربي ، عاشت فصول ذات التجربة السياسية ، وخضعت لمؤثرات نفس الإيقاع الحضاري ، وخرجت من تحت معطف الظاهرة الاستعمارية عينها . بحيث يمكن التوصل إلى صياغة ثلاثة أشكال من المرجعيات الفكرية ، تناظر كل واحدة منها مرحلة تاريخية معينة ، معتمدين بذلك – لتسويغ هذا التصنيف- على ما تركته لنا من بصمات واضحة على مجمل الخارطة الثقافية للمرحلة التاريخية المقصودة من جهة ، وعلى ما فرضته من حضور خطابي / إيديولوجي على مختلف القضايا التي كانت تستأثر باهتمام شريحة الانتللجنسيا حول سائر الأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية من جهة أخرى . إذ ليس هناك – كما يؤكد المفكر محمد عابد الجابري – ((مرجعية معرفية واحدة في الفكر العربي المعاصر ، بل مرجعيات مختلفة متباينة وغير متزامنة ، بعضها يستند إلى التراث العربي الإسلامي وحده ، لغة وفلسفة ودينا”وأيديولوجيا ، وبعضها يستند إلى الفكر الأوروبي المعاصر وحده ، لغة وفلسفة وأيديولوجيا ، وبعضها الآخر مزيج من هذا وذاك)) . هذا بالإضافة إلى رجاحة الاعتقاد ووجاهته بحقيقة إن في كل مرجعية متكاملة هناك محاور أساسية تلعب دور المحدّد في منظومة القيم ونسق المعتقدات السائدة في المجتمع ، بحيث إن أي تغيير يطرأ على أي محور من تلك المحاور ، لا بد أن يفضي إلى حدوث تغيير مواز في سائر مكونات المرجعية المعنية . وهكذا ففي المرحلة التاريخية الأولى التي اعتبرناها إطارا”(لمرجعية الثقافة الفرعية) ، وعلى خلفية ثبات النسق الاجتماعي ورسوخ المعتقد الديني واستقرار المخيال الرمزي ، سيما وان المجتمع خرج لتوه من طور البداوة إلى طور الحواضر والمدن ، تتشكل لدى (المثقف) – إن جاز لنا إطلاق هذا التعبير هنا – بنية خاصة من الوعي ، يمتزج في نطاقها خليط من مخلفات القيم القبلية والمعايير الاجناسية ، مع شيء من الولاءات المناطقية التي عادة ما تلهب الحماس الآني وتؤجج المشاعر العرضية ، حين تقع الخلافات البينية من حين لآخر . ولذلك فان الإطار العام للمرجعية الفكرية في هذه المرحلة يتحدد ضمن ثوابت معلومة ومنطلقات معروفة لدى غالبية النخب المنضوية تحت لواء هذا التوجه الفكري أو ذاك المسار الاجتماعي ، باستثناء ما هو طارئ وعارض على نسق الجماعة المحلية ودخيل على بنية المجتمع ككل . بمعنى إن أسس (الخطاب) القبلي كانت نقية من ناحية محمولاتها الداخلية ، وخالية من شوائب المؤثرات الخارجية الوافدة التي ستشرع بالظهور عند مفتتح الحقبة التاريخية اللاحقة ، حيث ستقع المرجعيات الفكرية الراكدة تحت وابل من التطورات النوعية العاصفة ، على أكثر من صعيد وفي غير مجال . وحين نتصدى لاستخلاص المحاور الرئيسية في (المرجعية الثقافية الوطنية) ، التي تمتد على نطاق المرحلة التاريخية الثانية ، عندما حدثت الصدمة الحضارية بين الشرق (المؤسطر) والغرب (المتحضر) ، تستوقفنا بعض تداعيات الظاهرة الاستعمارية وما نجم عنها من مؤثرات وترتب عليها من خيارات ، استلزمت أن تشرع النخب الثقافية بإعادة جدولة أجندتها السياسية ، وتتجه لمساْءلة حصيلتها المعرفية ، وتسعى لتقييم خطاباتها الإيديولوجية ، بما يوازي جسامة الحدث ويرقى لخطورة نتائجه . ليس فقط على مستوى الحاضر الذي كشف لنا ضعف منظومة الوعي الوطني وتفكك روابط العلاقات الاجتماعية الممأسسة فحسب ، وإنما على مستولى الماضي (الذاكرة التاريخية) والمستقبل (المصير الحضاري) أيضا”. وذلك لأن ((كل تفكير في المستقبل – يوضح الجابري مجددا”- هو في جزء منه ، على الأقل ، عبارة عن بناء علاقة جديدة مع (الآخر) ، أعني الطرف المزاحم في الماضي والحاضر ، أحدهما أو كليهما ، فضلا”عن كونه المنافس في المستقبل)) . هنا نلمس إن بنية المرجعية الفكرية خضعت إلى ما يشبه الحراك المفهومي والانزياح القيمي ، بحيث إن مدلول الانتماء الاجتماعي ومعزى الاصطفاف السياسي ، الذي كان مقتصرا”، في المرحلة التاريخية الأولى ، على نطاق العشيرة ومحصورا”ضمن حيز الطائفة ، اتسع حقله والتأم نسيجه ، شاملا”هكذا جميع شرائح المجتمع ومختلف قطاعاته ، عبر تحول العلاقات القرابية والمحلية / المناطقية من مرحلة الولاءات المتعددة في الثقافات الفرعية الضيقة ، إلى مرحلة الولاء الموحد للثقافة الوطنية الشاملة والقيم الاجتماعية المشتركة . وليس من قبيل التجاوز القول إن الفضل في هذا التحول يعود ، في واقع الأمر ، إلى عامل التحدي الاستعماري وما استتبعه من توجهات مريبة وما تمخض عنه من محاولات مشبوهة ، استهدفت ثوابت الهوية الثقافية ومرتكزات المصير القومي للمجتمعات المستعمرة ، عبر استعادة الإشكالية القديمة / الجديدة بين شرق مسكون بالخرافة ومعتق بالأساطير وغرب مهووس بالعقلانية ومأخوذ بالحداثة . وعلى وفق تصورات فيلسوف التاريخ (ارنولد توينبي) في أطروحته حول جدلية قانون التحدي والاستجابة ، فقد استنفرت النخب المثقفة كل ما له علاقة برموز (الدين والقومية) ، من منطلق أنها تعتبر حجر الأساس في منظومة خطابها السياسي وقاعدة الانطلاق في مشروعها المعرفي / الحضاري ، ليس من باب التطرف والتعصب إزاء الأديان والقوميات الأخرى – كما يروج لهذا الطرح في خطاب الاستشراق قديما”وخطاب العولمة حديثا” ، وإنما من منطلق المحافظة على مقومات الذات وخصائص الأنا ، والحيلولة دون مساع الاحتواء السياسي والتدجين الحضاري ، التي ما برحت ناشطة وفاعلة لحد الآن . وإذا كانت المرحلة التاريخية الثالثة التي احتضنت بواكير (مرجعية الثقافة الكوزموبولوتية) قد أرخت لمظاهر الاستقلال السياسي الشكلي والتحرر الاقتصادي المزعوم ، من الهيمنة الاستعمارية المباشرة ، فان مؤثرات الاستتباع الحضاري والاختراق الثقافي استمرت رابضة على عقل المثقف المعاصر ، لتحدد مسار خياراته وتشكل نمط خطاباته ، بحيث إن كل ما يطرأ في المركز / الغرب من تحولات فكرية أو تغييرات منهجية ، لا تلبث أن تجد لها صدى في سائر بلدان المحيط والأطراف ، لا بصيغة التفاعل الحضاري والتلاقح الثقافي القائم على التكافؤ والندية ، وإنما بصيغة الانفعال والتبعية . ولأن الغرب / الآخر استطاع بفضل السبق التاريخي الذي مكنه من امتلاك عناصر القوة والاستحواذ على مصادر الثروة ، إن يكون في الطليعة من حيث المبادرة في طرح المشاريع الفكرية وصياغة المقولات ونحت المفاهيم ، فضلا”عن المقدرة في توظيف منتجات العلوم ومعطيات المعارف في المجالات كافة ، بما ينسجم وطراز تطلعاته في تخطي الحدود القومية وعبور الحواجز الجغرافية ، نحو كونية حضارية متواصلة ؛ ابتدأت منذ عصر الثورة الصناعية في القرن السابع عشر بالنظرية الليبرالية الكلاسيكية ، مرورا”بالرأسمالية والاشتراكية ، وانتهاء بعصر العولمة ومرحلة ما بعد الحداثة . نقول على وفق هذه السيناريوهات الافتراضية ، فان المثقف المعاصر استمر يعاني عسر هضم الأفكار والنظريات ، التي راجت في الأوساط الثقافية الأوروبية لعقود متفاوتة من الزمن ، لا لعيب معرفي أو قصور ثقافي في قدرته على التعاطي مع المنتجات الفكرية وتمثل مضامينها ، وإنما لزخم ذلك الإنتاج وتواتر المكتشفات العلمية وانثيال المناهج البحثية ، بحيث إن جميع هذه المعطيات استباحت وعلى نحو مباغت كل ما هو مقدس في مخياله الرمزي ومحرم في وعيه الاجتماعي . لا سيما وان معقل ثوابته الوطنية وأصول مرجعياته الفكرية ، ستبقى تتعرض لأعنف المواجهات وتخضع لأقسى الاختبارات ، فيما لو أهمل ضرورة أن يواظب على مراجعة عدته المعرفية ، ومساءلة جذوره الثقافية ، وفحص أساليبه المنهجية ،باعتبار إن الذي ((يمارس علاقته بفكره – حسبما يقرر المفكر علي حرب – بصورة حية خلاقة ، ليس هو الذي يحرس أفكاره من الوقائع المباغتة ، بل هو الذي يدخل على مقولاته بطرح أسئلة الواقع والحقيقة ، لكي يفهم ما يحدث مما لم يكن بالحسبان)) .