الدولة الجزائرية ذات طابع ديني، مغلقة على مذهب واحد، صامدة أمام التقلبات ورافضة لسياسة الانفتاح في مجال الاختيار العقائدي، وإن كانت مشرعة الأبواب في كل مجالات الحياة الأخرى.
يُحِيلُنا النقاش الدائر في الجزائر اليوم على الصعيدين الديني والسياسي، حول اتباع بعض الأفراد لمذاهب أخرى غير المذهب المالكي، الذي تتبناه الدولة الجزائرية اختيارا فقهيا ضمن اجتهادات فقهاء المسلمين في القرون الهجرية الأولى، إلى التمييز بين تصنيف الدولة الجزائرية من ناحية التنظيم والتسيير والرؤية والأهداف، لجهة طرح السؤال التالي: هل الجزائر دولة دينية أم مدنية؟
هي لا شك تجمع بين الاثنين من ناحية تطبيق القوانين، ولكنها أقرب للدولة الدينية منها إلى المدنية أو العلمانية، وربما لهذا السبب عجزت الأحزاب الإسلامية المعارضة جميعها- إذا استثنينا الجبهة الإسلامية للإنقاذ- عن فرض برامجها الدينية، أو التأسيس لمشاريعها وأطروحاتها الحزبية، الأمر الذي يرسخ قناعات المجتمع الجزائري من أن الدولة تشرف على الدين في أحكامه وتطبيقاته المتعلقة بالمعاملات، أما شقه الخاص بالعبادات فهو يخص الأفراد، شرط أن يتم ذلك خارج الاختيار المذهبي للدولة، أي لا يكون مناقضا أو معارضا للمذهب المالكي، ومن هنا يمكن فهم متابعة أجهزة الأمن للجزائريين الذين اختاروا مذاهب أخرى، التشيع مثلا، سواء أكان ذلك سرا أم علنا، وكذلك موقف وزارة الشؤون الدينية، وباقي المسؤولين في مختلف مواقعهم، تساندهم في ذلك معظم الأحزاب بما فيها اليسارية واللائكية، وأيضا غالبيّة الرأي العام.
ورغم هذا هناك مخاوف رسمية وحزبية وشعبية من تداعيات تشيًّع بعض الأفراد وأيضا من انتشار للأحمدية، قليل لكنه منظم، حيث يعتقد أنها ستؤثر على السلم الاجتماعي العام، وقد تعيد الجزائر إلى سنوات الإرهاب، خاصة بعد تمدد التنظيمات السلفية، وتمركزها في المساجد بشكل ملحوظ، لدرجة أنها أصبحت تمثل قلقا لكل مؤسسات الدولة خاصة المؤسستين الأمنية والعسكرية، لما ذلك من علاقة بتوتر محتمل في المجتمع قد يؤدي إلى انهيار الجبهة الدّاخليّة.
الجزائر اليوم ترى نفسها، على خلفية ظهور مذاهب أخرى ليست من مذاهب أهل السنة والجماعة، ومخالفة للمذهب المالكي على حافة مواجهة بين الغالبية من المواطنين، وبين تمرد بعض الأفراد والجماعات على الخيار الأساسي للمجتمع الجزائري، ذلك لأنها اختارت منذ قرون أن تكون ضمن المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، بعد أن جرّبت التشيع أثناء الدولة العبيدية (الفاطمية)، وهي بذلك ارتبطت بتاريخ الفقه الإسلامي، الذي يعود إلى القرن الثاني الهجري، أي حين تبلورت الآراء الفقهية للإمام مالك بن أنس في مذهب واضح ومستقل، مستندا في اجتهاداته وآرائه إلى أعمال “أهل المدينة”.
من ناحية أخرى، فإن مخاوف الدولة الجزائرية لا تقف عند حدود احتمال انهيار الجبهة الداخلية بتعدد المذاهب، ولكنها تتعداه إلى الانتماء التاريخي، والجغرافي خاصة، ذلك لأنها ترى أن ما يتمُّ الآن من تمرّد عن مذهب الدولة المالكي أو خروج عنه، يؤثر سلبا على قناعتها الدينية، التي ترسخت وتحوّلت إلى هوية، ثم إلى دولة بعد الاستقلال، ويؤثر أيضا على موقعها الجغرافي من ناحية التقسيم المذهبي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، فهي من ناحية أولى تنتمي إلى أغلبية مذهبية منتشرة في كل دولة العالم، وهي المذاهب السنية الأربعة، ومن ناحية ثانية تنتمي إلى مذهب يشكّل 35 بالمئة من إجمالي المسلمين في العالم، ووهي بذلك محتمية بوحدة مذهبية هي أقرب إليها من تكتل أو اتحاد أو تحالف جغرافي وسياسي، يجمعها بكل من السودان وتونس والمغرب وليبيا وموريتانيا وصعيد مصر، وبعض دول شبه الجزيرة العربية مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة والكويت وأجزاء من السعودية وعُمان، وبلدان أخرى في الشرق الأوسط، ويُعمّق امتدادها مع باقي الدول الأخرى في أفريقيا، مثل إرتريا والسنغال وتشاد ومالي والنيجر وشمال نيجيريا، ويعيد تذكيرها بأمجاد المسلمين السابقة في الأندلس وبعض مناطق أوروبا.
غير أن تلك المخاوف ليست مبررة في نظر البعض وذلك لسببين: الأول أن اختيار بعض الأفراد أو حتى جماعات لمذهب ديني، أو حتى لدين آخر لا يؤثر على المجتمع لدرجة تشن فيه الدولة حرب إقصاء وإلغاء وتخويف.
والسبب الثاني أن الدستور الجزائري ينص على أن حريّة العقيدة والرأي مضمونة، وهذا يكفل للمواطنين اختياراتهم وقناعتهم المذهبية أو الدينية، بل عليه حمايتهم من رد فعل المجتمع، ثم أن الدولة الجزائرية مطالبة في كل وقت بتنفيذ ما جاء في بيان أول نوفمبر 1954، باعتباره المرجعية النصيَّة والوثائقيَّة التي قامت عليها كل البرامج منذ الاستقلال إلى الآن، حيث ذكر البيان أن الهدف من الثورة وضمن الخطوط العريضة للبرنامج السياسي هو الاستقلال الوطني بواسطة “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، واحترام جميع الحريَّات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني”.
تلك المرجعيَّة لا يعود إليها إلا في حال تمَّت مناقشة قضايا سياسية، ثبت فيها تخلِّي السلطة أو المعارضة على المبادئ التي قامت عليها الثورة الجزائرية، ولكن المشرع لم يوضح الجهات المعنية بعدم التمييز، لكن الوقائع الراهنة تبيِّن أن المقصود هم الأجانب- أي غير الجزائريين- الذين يُدينون بعقيدة أخرى، وربما كان المقصود في ذلك الوقت المسيحيين واليهود بحكم تواجدهم في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي.
أما بالنسبة إلى الجزائريين، فإن حريتهم في ممارسة عقيدتهم مرهونة بإسلامهم، وعبر مذهبهم المالكي، ويساند معظم الجزائريين هذا الطرح في ظل وتوافق وتأييد لنظام الحكم، قلما يحدث في حالات أخرى، ما يعني أن الدولة الجزائرية ذات طابع ديني، مغلقة على مذهب واحد، صامدة أمام التقلبات ورافضة لسياسة الانفتاح في مجال الاختيار العقائدي، وإن كانت مشرّعة الأبواب في كل مجالات الحياة الأخرى.
نقلا عن العرب