قال الحسيني القنوجي” لم يبق في الجهات الأربع وما بها من المدن والأمصار والقرى من العلم إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، فقد أباد الزمان أهله كأن لم يَغنوا بالأمس. فقد ذهب العلم برمته وجاء الجهل بأسره”. (أبجد العلوم).
في مقالنا السابق تحدثنا عن الإنشقاقات والتشظيات الجديدة في الكتل والأحزاب السياسية الحاكمة الشيعية منها والسنية، في الوقت الذي حافظت الأحزاب الكردية على كياناتها الحالية رغم الإختلافات الجوهرية فيما بينها. في الحقيقة لا توجد مسألة توحد الأحزاب الكردية سوى المطالبة بكركوك وقرض ما يمكن قرضه من الأراضي العراقي في إنتهازية واضحة للعيان. بدأ الإنشطار الحزبي مع عمار الحكيم وتلاه سليم الجبوري بتأسيس احزابهما الجديدة، وتلتهم أحزاب أخرى، ويبد ان حزب الدعوة المنشق أصلا الى مجموعتين متنافستين يقود أحدهما نوري المالكي ويقف ورائه نظام الملالي وزعماء الحشد الشعبي الموالين لولاية الفقيه، ويقود المجموعة الثانية حيدر العبادي وتقف معه الولايات المتحدة والجيش والأجهزة الأمنية.
يبدو ان المالكي أدرك أن على شفا هوة عميقة في الإنتخابات القادمة، وأن كفته لا يمكن ان ترجح بدون دعم دولي قوي، سيما ان موقف الولايات المتحدة منه لا يُخفى على أحد، لذا توجه الى آية الله الروسي بوتين عسى أن يحصل منه على دعم! وهذا ما جعله يطالب بكل صفاقة ووقاحة بتواجد روسي عسكري على الأراضي العراقية، كأنه لم يرى في وجود ما يقارب عن (60) قوات اجنبية في بلد صغير كالعراق ما يكفي! لكن ما فات المالكي انه تجاهل تصريحاته السابقة في رفض التواجد العسكري الأجنبي في العراق، وفاته أيضا انه زعيم لحزب ديني له تقاطاعات عقائدية حادة مع الأحزاب العلمانية، وفاته ايضا ان العلاقات الدولية لا تتوقف على زيارة مسؤول مهما كان حجمه السياسي، ولا أيضا على دعوة لتواجد عسكري، فروسيا لا يمكن ان تخطو هذه الخطوة دون أن تدرس آثارها وتداعياتها الداخلية والخارجية، سيما في ظل تواجد عسكري امريكي وأوربي كثيف، ورغبة امريكية جدية بتخليص العراق من براثن الولي الفقيه. بل أن التواجد الروسي في سوريا تبعه تواجد امريكي بتوافق وتنسيق ما بين الطرفين. وفات المالكي أيضا بأنه منصبه كنائب رئيس الجمهورية هو منصب تشريفي، ولا يحق له ان يطالب بتواجد عسكري أجنبي إلا بموافقة البرلمان ورئيس الحكومة الحالية. ولولا قاعدة (غض النظر) التي تتبعها الأحزاب الحاكمة لإستدعى الأمر محاكمة المالكي أو على أقل تقدير، إستضافة خائبة من قبل البرلمان الغافي، او صدور بيان من رئيس الحكومة يرفض مطالبة المالكي بالتواجد الروسي ويبين حجمه الحقيقي الحالي.
ويبدو كالعادة ان الأحزاب الحاكمة تحاول اتباع التقية السياسية في علاقتها مع نظام الملالي، فلم يعد مخفيا الدور الإيراني في خراب العراق ونهب ثرواته وتدمير مقدراته كافة، ولم يعد مخفيا ان الحشد الشعبي صنيعة ايران، هو نواة لتأسيس الحرس الثوري العراقي، وصارت الدعوات علنية بأن رئيس الحكومة القادم سيكون من الحشد الشعبي، بل ان شخصيات سنية رعناء أخذت تروج لهذا الأمر مثل صالح المطلك. ويبدو ان هذه التصريحات غير المنطقية التي يروج لها زعماء الحشد وجحوش أهل الستة تتجاهل الإرادة الأمريكية والدولية في هذا الشأن، فالأحلام شيء، والواقع شيء آخر.
كما أسلفنا سابقا ان التسميات الجديدة للأحزاب الحاكمة والطروحات الفكرية الجديدة لا تعكس ما تبطنه هذه الأحزاب، فالطروحات قبل الإنتخابات هي ليست نفس الطروحات ما بعد الإنتخابات، بل أحيانا تتعارض معها، والتجربة أفضل برهان. كما ان نزع رداء المسؤولية عن التدهور والخراب الذي حل بالعراق ولبس رداء مغاير له، إنما هي الاعيب لا تنطلي إلا على الجهلة والحمقى. السنوات العجاف السابقة، والمشاريع البرلمانية التي أقرت أو لم تقر لحد الآن تعكس تلبيس وتدليس الأحزاب الحاكمة على الشعب ومحاربة دعواته.
الأحزاب العابرة للطائفية والتنصل عن حكم الملالي وتبني سياسة الإنفتاح السياسي والإقتصادي، والمشاركة الحقيقية في الحكم، والإبتعاد عن الطروحات الدينية، والشوق الى الحضن العروبي وغيرها من الأفكار، كانت قبل أشهر نفس الأحزاب تطالب بردعها وتناشد الحكومة بحمل العصا الغليظة تجاه من يروج لها. فما الذي جرى لتنتقل طروحات هذه الأحزاب (180) درجة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار؟
هل هناك سبب غير الإنتخابات القادمة؟ لنأخذ موقف عمار الحكيم كنموذج، فقد صرح خلال إستقباله لإعلاميين إيرانيين ـ بعد زيارة مقتدى الصدر الى السعودية والإستقبال الحافل الذي حظي به، رغم ان الموقف السعودي كان متسامحا للغاية مع الصدر الذي سبق ان هدد بإرسال الآلاف من مقاتلي تياره الى البحرين لمحاربة التواجد السعودي، وطالب بإدارة دولية لمكة والقطيف ـ تصريحا متناغما مع الموقف الإيراني تجاه زيارة الصدر والهجوم الذي شُنٌ عليه، فقد صرح عمار الحكيم بأنه يرفض زيارة السعودية” إلا بعد خروج القوات السعودية من البحرين، ووقف قتل الشعب اليمني المظلوم ومنح الحكم للحوثيين”! بالطبع هذه الطروحات إيرانية بحته، والحكيم فضح نفسه أمام الملأ بهذا الإعلان الذي يتعارض مع طروحات تياره الجديد. السياسة الدولية للعراق لا يحددها المالكي ولا عمار الحكيم، فهم رؤساء أحزاب، يمكن لهما ان يطرحا أفكارهما في باحة البرلمان. كما أن المملكة السعودية لم توجه أصلا دعوة زيارة الى الحكيم لأنها تدرك جيدا بأنه قزم تابع لإيران سواء في مجلسه القديم أو تياره الجديد. كما ان الطروحات حول زيارته للسعودية لا يمكن ان يصرح بها عاقل يرغب فعلا بتصفية الأجواء السياسية مع الدول الشقيقة. النتيجة التي نخرج بها، ان أقزام إيران لا يمكنهم ان يخرجوا من جلباب الخامنئي مهما إدعوا خلاف ذلك. وعجبي عندما يكشف العميل نفسه جهارا بلا حياء.
المسألة المهمة: هل سيكون موقف الشعب العراقي في الإنتخابات القادمة مثل ذلك الرجل الذي شكى لآخر بقوله: قد لدغتني عقربٌ، فهل عندك لهذا دواءٌ؟ فأجابه: نعم! الصياح حتى الصباح.