لا تمكن المراهنة على تراجع مكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة، بحكم الروابط الوشيجة التي تجمع هاتين الدولتين، وبحكم العلاقات التاريخية والمتميزة التي تربطهما.
لم يأت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأي جديد على صعيد تأكيد العلاقة الاستراتيجية التي تربط بلاده بإسرائيل، ولا على صعيد تماهي السياسة الأميركية الخارجية مع سياسة إسرائيل، إزاء الفلسطينيين، وفي المنطقة. وفي الحقيقة لا توجد علاقة بين دولة وأخرى تشبه علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل، إذ تبدو العلاقة بين هاتين الدولتين، لوحدها، نسيجا بين علاقات الدول، رغم الفارق في أشياء كثيرة، في الحجم وعدد السكان والتاريخ والقوة ومستوى التطور، وفي اعتمادية الثانية على الأولى، وهذه تشمل السياسة والأمن والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.
هكذا، فإن اللافت في هذه العلاقة أن إسرائيل التي تتمتّع بضمانة الولايات المتحدة لأمنها وتفوقها الاستراتيجي، في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، تبدو عبئا حقيقيا عليها، من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، ولجهة مكانة الولايات المتحدة وصدقيتها في العالم. اللافت، أيضا، أن إسرائيل دولة صغيرة جدا وهي بعيدة عن الولايات المتحدة، ولا يزيد عدد سكانها عن بضعة ملايين، ويبلغ ناتجها السنوي نحو 300 بليون دولار، في حين أن الولايات المتحدة دولة كبيرة وقوية بالمقاييس الجغرافية والسكانية والاقتصادية والتكنولوجية.
في المقابل فإن مصالح الولايات المتحدة في العالم العربي أهم بكثير من مصالحها في إسرائيل، ففيه كتلة بشرية تناهز 400 مليون نسمة، وفيه ثروة نفطية هائلة، وهو يحتل موقعا استراتيجيا للعلاقات الدولية، إلا أن الإدارات الأميركية لا تبالي بكل ذلك وتمحض دعمها لإسرائيل، مستهينة بحقوق العرب ومكانتهم. بيد أن إسرائيل رغم كل ما تقدم، في محاولاتها فرض سياساتها وأولوياتها وحاجاتها، لم تتوان عن معاندة مصالح الولايات المتحدة وأولوياتها، في الشرق الأوسط، كما شهدنا في عدة محطات تاريخية، وضمنها، مثلاً، في ولاية كل من الرئيس جورج بوش الأب وبيل كلينتون وباراك أوباما (الذي ذهب بنيانين نتنياهو لتحديه في الكونغرس)، إذ أنها في ممانعتها تسهيل السياسة الأميركية الشرق أوسطية، لم تتنازل ولا حتى إلى مجرد تجميد ولو مؤقت وجزئي للاستيطان.
ويمكن تفسير العلاقة الخاصة، التي تسمح لإسرائيل بتحدي الإدارة الأميركية، بالعوامل التالية:
1- تماهيها مع مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في الشرق الأوسط في مرحلة الحرب الباردة خصوصا، من الخمسينات إلى الثمانينات من القرن الماضي، لذلك فإن هذه العلاقة تستند إلى إرث تاريخي راسخ من العلاقات والمصالح والرؤى المتبادلة.
2- وجود لوبي يهودي قوي ونافذ في المجتمع الأميركي وفي مراكز صنع القرار يسهل لإسرائيل سياساتها ويدافع عن مصالحها في حين ثمة غياب للوبي عربي فاعل وموحد.
3- تستمد إسرائيل نفوذها من وجهة نظر لدى النخب المتنفذة في الـولايات المتحدة ترى بأنها تنتمي إلى منظومة الحضارة الغربية، وأنها بمثابة واحة للديمقراطية والحداثة في المنطقة، وفق شعار أن “ليس في الشرق للغرب أكثر من الغرب نفسه”. وكما لاحظنا فقد تداعت هذه الأسطورة بعد انفضاح الطابع العنصري والاستعماري لإسرائيل، ولكن النتائج كانت أكثر وضوحا في أوروبا منها في الولايات المتحدة.
4- طبيعة النظام السياسي الأميركي، الذي يعتمد على دوائر عدة، خصوصا أن الضغط عليه، لتوجيه دفة السياسة الخارجية الأميركية، لا يقتصر على العلاقة بالرئيس أو بأركان إدارته، وإنما يشمل التأثير في دوائر الناخبين وفي مجلسي النواب والشيوخ، ووسائل الإعلام والشركات الكبرى والجامعات ومراكز الضغط الأخرى (اللوبيات).
5- تشتت وضعف إرادة الأنظمـة العربية، وتخلف الإدارة السياسية في العالم العربي، على الرغم من كثرة العرب وكثرة دولهم وغزارة نفطهم وكبر ثرواتهم.
6- ثمة بعد ثقافي وديني، بين الطرفين يستمد وجوده من تيار في المسيحية البروتستانتية، المنتشرة في المجتمع الأميركي، والذي يعتبر قيام إسرائيل علامة من علامات “القيامة”، ولذلك فإن هذا التيار يدعم وجود إسرائيل من هذا المنطلق، وإن لغايات مختلفة.
7- وجود شعور بنوع من التماثل بين قيام إسرائيل وقيام الولايات المتحدة، التي نشأت أيضا بوسائل الهجرة والاستيطان والقوة، ضد أهل الأرض الأصليين.
هكذا، وبحكم كل هذه العوامل، فإن إسرائيل تتمتع بامتيازات تتيح لها العمل من داخل المجتمع الأميركي، والسياسة الأميركية؛ ما يفسر تحمّلها الخلاف مع هذه الإدارة أو تلك، لأن الخلاف يبدو وكأنه داخل الإدارة والمجتمع الأميركيين. ومثلا، فإبان إدارة أوباما كانت ثمة وجهة نظر إسرائيلية تفيد بأن إضعاف إدارته يساهم في إنعاش القوى الحليفة لها في السياسة الأميركية، من تيار اليمين والمحافظين الجدد، على نحو ما جرى إبان ولاية جورج بوش الابن. وعلى الصعيد الخارجي فإن إسرائيل لا تتهيّب الخلاف مع الإدارة الأميركية لأنها تستشعر بأهميتها للولايات المتحدة في سياساتها الشرق أوسطية، حيث تطرح نفسها بمثابة الحليف الوحيد، الثابت والموثوق، لها في المنطقة.
على ذلك، لا تمكن المراهنة على تراجع مكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة، في ظل هذه الإدارة أو تلك، لأن ذلك يقتصر على الأقوال، كما حصل في ولاية أوباما، بحكم الروابط الوشيجة التي تجمع هاتين الدولتين، وبحكم العلاقات التاريخية والمتميزة التي تربطهما، وبواقع أن السياسة عندهما تعمل بطريقة المؤسسات، والمصالح والرؤى الإستراتيجية، لا الآنية أو الشخصية. في المحصلة فقد بينت الـتجربة أن أي خلاف يحصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل يجري حله على حساب قضايا العرب وحقوقهم، هذا سيستمر في عهد دونالد ترامب، كما كان في عهد أوباما وما قبله.
نقلا عن العرب