منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، لم تكن علاقتها بمحيطها العربي والإسلامي محكومة فقط بصراعها مع الدول المركزية الكبرى، بل أيضاً بمقاربتها الخاصة تجاه الأقليات الدينية والقومية المنتشرة في المنطقة. أدركت إسرائيل مبكراً أن بناء تحالفات مع هذه الجماعات، التي كثيراً ما شعرت بالتهميش أو الاضطهاد من حكوماتها المركزية، يمكن أن يكون ورقة استراتيجية لتعزيز أمنها وكسر عزلتها الإقليمية. هذه السياسة التي تُعرف أحياناً بـ”تحالف الأطراف” لم تكن عشوائية، بل جاءت مدروسة ضمن رؤية أيديولوجية واستراتيجية تستهدف إعادة تشكيل التوازنات داخل المجتمعات العربية والإسلامية لصالح تل أبيب.
من أبرز الأمثلة على هذه العلاقات هو التحالف التاريخي مع الموارنة في لبنان، لا سيما خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حين دعمت إسرائيل ميليشيات مسيحية مثل “القوات اللبنانية” بقيادة بشير الجميل، وقدمت لها السلاح والتدريب والاستخبارات. هذا التحالف بلغ ذروته خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حين نسّقت إسرائيل دخولها مع حلفائها المسيحيين، وكان الأمل أن تُقام حكومة لبنانية حليفة لتل أبيب. إلا أن هذا التحالف واجه فضيحة مجزرة صبرا وشاتيلا التي تورّطت فيها الميليشيات المسيحية تحت الغطاء الإسرائيلي، ما أحدث ارتداداً سلبياً واسعاً، محلياً ودولياً، على صورة هذا التحالف.
نموذج آخر يتجلى في العلاقة بين إسرائيل والدروز، سواء داخل الخط الأخضر أو في سوريا. ففي الداخل الإسرائيلي، مُنح الدروز مكانة متميزة مقارنة ببقية العرب، حيث يُجندون في الجيش الإسرائيلي ويتم دمجهم جزئياً في مؤسسات الدولة. ورغم ذلك، فإن هذا “الدمج” ظل موضع جدل داخل المجتمع الدرزي، خاصة بعد إقرار قانون “الدولة القومية اليهودية” الذي رسخ يهودية الدولة واستثنى غير اليهود من أي تعريف للشراكة الوطنية. أما في سوريا، فقد حاولت إسرائيل مراراً استمالة دروز الجولان المحتل، ودعمت، أو غضّت الطرف عن، بعض التحركات الانفصالية في مناطق درزية في الجنوب السوري، لا سيما عندما تزايد نفوذ الجماعات الإسلامية المعادية للدروز.
الأكراد كذلك يُعدّون أحد أبرز محاور استراتيجية إسرائيل الإقليمية. فمنذ الستينيات، دعمت تل أبيب التمرد الكردي ضد الحكومة العراقية، ومرّ الدعم عبر إيران الشاه آنذاك. وفي مرحلة ما بعد 2003، وجدت إسرائيل فرصة لتجديد العلاقة مع إقليم كردستان العراق، فدعمت مساعي الإقليم نحو الاستقلال، وشاركت شركات إسرائيلية في مشاريع اقتصادية هناك، كما زُعم أن نفطاً كردياً صدّر إلى إسرائيل رغم المعارضة العراقية. وترى إسرائيل في الأكراد “حليفًا طبيعيًا” كونهم يشتركون معها في الخصومة مع الأنظمة العربية والإيرانية، ويشكلون أقلية قومية تطمح إلى بناء دولة قومية خاصة.
في سوريا، خاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية، بدأت إسرائيل بفتح قنوات اتصال مع فصائل محلية في الجنوب السوري، شملت بعض الأقليات وحتى بعض العشائر السنية. بعض التقارير تحدثت عن دعم لوجستي وطبي قدمته إسرائيل لفصائل سورية مسلحة على حدود الجولان، في مسعى منها لإقامة منطقة عازلة تخفف من تهديدات حزب الله وإيران. ومن المثير أن بعض هذه الفصائل – لاحقاً – تحولت إلى أدوات للتأثير الإسرائيلي غير المباشر في الداخل السوري، رغم أنها كانت، على السطح، محسوبة على المعارضة.
أما الأقليات الدينية الصغيرة كالأيزيديين في العراق وسوريا، فقد حاولت إسرائيل توظيف مآسيهم، خصوصاً بعد اجتياح “داعش” لسنجار، في خطابها الدولي، مظهرة نفسها كمدافع عن الأقليات المضطهدة في الشرق الأوسط. ورغم عدم وجود تحالف فعلي على الأرض، إلا أن تل أبيب استثمرت في هذا الملف دعائياً وسياسياً، لتحسين صورتها في الغرب وإظهار الفارق بينها وبين الأنظمة المحيطة.
السياسة الإسرائيلية تجاه الأقليات لا تتسم دوماً بالثبات أو النقاء الأخلاقي، بل كثيراً ما تكون انتقائية ومصلحية، مبنية على اللحظة السياسية. هي علاقة وظيفية تتغذى على أزمات الآخرين وهشاشتهم، وتُبنى على معادلة “عدو عدوي صديقي”، دون أن تعني بالضرورة التزاماً طويل الأمد أو شراكة حقيقية. في أحيان كثيرة، تخلّت إسرائيل عن حلفائها في اللحظة الحرجة، كما حصل مع أكراد العراق في استفتاء الانفصال، أو مع بعض الدروز السوريين الذين طالبوا بدعم إسرائيلي علني ولم يجدوه.
يمكن القول إن إسرائيل وظّفت الأقليات المحيطة بها ضمن استراتيجية محكمة لإضعاف الدول المركزية وتفكيك نسيجها الداخلي، مستغلة واقع المظلومية لدى هذه الجماعات. لكنها في ذات الوقت، لم تقدم بديلاً فعلياً لحياة مشتركة عابرة للهويات، بل رسخت منطق التحالفات الطائفية والهوياتية، مما زاد من تفكك الإقليم، وعمّق من أزماته البنيوية.