23 ديسمبر، 2024 12:20 ص

إستقلالية القضاء وحدودها من الفكر القضائي الألماني

إستقلالية القضاء وحدودها من الفكر القضائي الألماني

ويل للضحية المسكينة, عندما يكون نفس الفم الذي صنع القانون هو من ينطق بالحكم
فريدريش شيلر
بهذه الكلمات عبر شيلر عن مطلب استقلالية المحاكم في مسرحيته المكناة ماريا ستوارت. للقاريء الذي لا يعرفه فإن شيلر هو احد عمالقة الشعر الألماني في فترته الرومانسية وقد عاصر شاعر المانيا الكبير غوته. وهو من نظم قصيدة نشيد الفرح التي استعمل نصها بتهوڤن في سيمفونيته التاسعة. إن هذه المقولة إنما تعكس فكرة فصل السلطات, التي هي اساس بناء دولة القانون والتي تحسم فيها المنازعات القضائية لا عن طريق احد الموظفين او الوزراء بل من طرف ثالث غير متورط في النزاع ألا وهو القاضي. وفي الأدب الأنجلوساكسوني فإن استقلالية القضاء تتمثل بالمطالبة بضرورة حفظ القضاء من التأثيرات الضارة لبقية فروع الدولة او من المصالح الخاصة. وقد عولجت هذه القضية بطرق مختلفة في بلدان العالم تختلف في معالجتها كيفية إنتقاء القاضي, ولعل من طرق تعزيز استقلالية القضاء هي عقود التوظيف لمدى الحياة او لمدد طويلة بشكل عام بحيث تحرر القضاة من كابوس تجديد العقد وتمكنهم من إتخاذ قراراتهم طبقاً لقواعد القانون وحرية التصرف القضائي حتى لو كانت هذه القرارات غير مستحبة سياسياً وتعترض عليها مجموعات متنفذه.

وإنطلاقاً من اهمية فصل السلطات واستقلالية القضاء في بناء الدولة الحديثة فإني اقدم هنا ترجمة حول الموضوع بعنوان: نحو ادارة ذاتية أكثر للنظام القضائي, بقلم القاضي ماكين روت, رئيس إتحاد القضاة الألمان عله يكون نافعاً لقضاتنا ومحامينا الذين قد يهمهم ان يكون في عراقنا نظام قضائي مستقل, بعد ان اثبتت تجارب السنوات الماضية أن هذا القضاء قد تدهور وفقد سمعته نتيجة إنصياعه لأمر الحاكم بأمره وللأسف.

نصح الإتحاد الاوروبي بلدان شرق اوروبا من المرشحين للإنضمام اليه ان يدخلوا عناصر من الإدارة الذاتية في نظامهم القضائي كدليل على إستقلالية قضائهم, فهل يفي النظام القضائي الحالي في جمهورية المانيا الاتحادية, البلد العريق في هذا الإتحاد بمتطلبات هذا الأخير؟

تستقر الدولة ثلاثية السلطات الحديثة ومنذ عهد مونتسكيو على ثلاثة أعمدة وهي التشريعية, التنفيذية والقضائية, فمن يقطع أحد سيقان هذا المقعد ثلاثي السيقان فإنه سيجعله يسقط. ثم يتحدث الكاتب عن دولة القانون ألمانيا فيقول: أن هذه الدولة تتعرض الآن لخطر إصابة احد سيقانها بالتآكل. لا يوجد خطر سقوط مفاجئ, ولكن السلطة الثالثة للدولة لا تقف بشكل ثابت.

١- مقدمة

ان الطريق الى الإستقلالية يمر على جثة وزير العدل – مثل هذا الكلام لا يسمعه بالطبع وزراء العدل بسرور وبالتالي فإنهم يدافعون عن أنفسهم عندما تعلوا أصوات مناقشات الهيكليات السائدة في القضاء فيخلطون بين المشاريع الاولية واوراق النقاش كتلك المتعلقة بإتحاد القضاة الألمان وبين لوائح القوانين. وتتواجد المقاومة ايضاً في السلطة الثالثة نفسها, نتيجة التخوف من ان الحالة قد تتدهور اكثر عبر تغيير الوضع الراهن والذي يعبر عنه عبر بعض حلقات النقاش, ومع ذلك لا يمكن المرور مرور الكرام عن الحقيقة التالية: لقد اظهرت هيكليات القضاء السائدة لحد الآن وجود نواقص كبيرة لمن يطالب بالحق في الواقع القضائي لألمانيا الإتحادية – ان المستهدف بالدرجة الاولى من كل الجهود المبذولة لتحسين الهيكلية والنوعية في الخدمات القضائية هم طالبي الحق وليس القضاة او المحامين. لقد حان الوقت كي تناقش وربما تجرب طرق جديدة.

٢- الوضع الحالي

لم يحقق النظام التقليدي للقضاء لبلدان الإتحاد الألماني, وبإنحراف عن الصورة المثالية للدستور سوى نتائج سيئة في غالبيتها. وقد أكدت نتائج الدراسة التي قامت بها شركة آرثر اندرسن, بتكليف من موتمر وزراء العدل عن الحاجة الى القوى العاملة في المحاكم ودوائر الإدعاء العام, اكدت هذه النتائج الشكاوي الكثيرة وحددتها: بأن هناك حاجة الى اربعة آلاف قاضي ووكيل نيابة في عموم المانيا. القضاة ووكلاء النيابة. فالقضاة منهكين من كثرة الأعباء ويلجؤن في اغلب الأحيان الى ممارسات مشكوك في صحتها في الغالب وغير مقبولة من قبل الرأي العام كالإيقاف المبكر للإجراءات القضائية فيما يخص قانون العقوبات او التسويات فيما يخص القانون المدني. إن هذه الإجراءات تقلل من قيمة القضاء. وقد دق قضاة هامبورغ في السنة الماضية ناقوس الخطر: إنهم لا يستطيعون ان ينجزوا اعمالهم حسب متطلبات دولة القانون. إن عدد القضاة ووكلاء الإدعاء العام , يتناقص في ألمانيا: ففي الوقت الذي بلغ عدد القضاة ٢٢١٣٤ ووكلاء الإدعاء العام ٤٩٩٨ في مطلع عام ١٩٩٥, بلغ العدد ٢٠٩٦٩ بالنسبة للقضاة و ٤٩٩٨ بالنسبة لوكلاء الإدعاء العام في مطلع عام ١٩٩٩ اي بإنخفاض سيقترب بسرعة من نسبة العشرة بالمائة.

عدم كفاية الكادر الوظيفي والتجهيز المادي هما وراء تدهور مكانة القضاء في بنية الدولة في المانيا الإتحادية. ففي اوقات إقفرار ميزانيات البلدان يتعين على السلطة الثالثة ان تخضع أيضاً لأوامر تقشف السلطة التنيفيذية.

٣- اوروبا

ماذا يعمل الآخرون؟ إن ألمانيا محاطة ببلدان ذات أنظمة قضائية يتمتع فيها القضاء بإستقلالية عن السلطة القضائية اكثر من تلك السائدة في بلدنا. فدول اوروبا الجنوبية كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا يعرفون الإدارة الذاتية للمحاكم منذ فترة طويلة وإن كانت النتائج ليست مرضية دائماً. هناك ايضاً بلدان اوروبية عديدة اوجدت في السنوات الأخيرة هيكليات جديدة للقضاء. ففي هنغاريا على سبيل المثال هناك مجلس للعناية بالقضاء يخضع له القضاة. وفي البرتغال أسس الدستور في عام ١٩٩٧ مجلس أعلى للقضاء, اما زملائنا الدانيماركيون فهم يعملون منذ ١٩٩٩ عبر مجلس الإدارة الذاتية للقضاء. وفي هولندة يقود مجلس القضاء كجهاز مستقل للإدارة الذاتية السلطة الثالثة للدولة. كذلك تفكر كل من النيرويج وبولندة بإدخال أنظمة الإدارة الذاتية, وكما اسلفت سابقاً فقد نصح الإتحاد الاوروبي بلدان شرق اوروبا من المرشحين للإنضمام اليه ان يدخلوا عناصر من الإدارة الذاتية في نظامهم القضائي كدليل على إستقلالية قضائهم, وطبقاً لذلك فقد بدأت كل من استونيا وليتوانيا بالتخطيط لإنشاء أجهزة للإدارة الذاتية. وبالطبع نحن لا ندعو الى الأخذ بدون تفحص نماذح من الخارج. ولكن بإسلوب التحدي نسأل: هل يمكن للنظام القضائي في جمهورية ألمانيا الإتحادية بمتطلبات القبول في الإتحاد الاوروبي؟ بالتأكيد فإن وزارات عدل بعض البلدان الإتحادية يتعين عليها أن تنظر في أسئلة محرجة من بروكسل. على كل حال فإن فكرة المجال القضائي الاوروبي لا تتعارض مع نظام الإدارة الذاتية للقضاء الألماني الإتحادي بل بالعكس تعزز الإسراع في إدخال هكذا نظام.

٤- مزيد من الإدارة الذاتية؟

المسؤولية الذاتية وإزالة القيود تتناسب وفكرة الدولة الرشيقة. ما المانع من تطبيق مثل هذه المبادئ بنجاح في ألمانيا الإتحادية هذه المبادئ التي اصبحت معيار في بلدان اخرى؟ علماً بأن الإدارة الذاتية في القضاء لا تتعارض بالبتة مع ماهيته. إن رؤساء المحاكم, وهم أجهزة الإدارة القضائية, بعرفون منذ عشرات السنين كيف يوزعون الأعمال بشكل مهني داخل المحاكم. ومع ذلك لا يمكن القول بتحقيق مبداً جمع المهمة والقابلية والمسؤولية في يد واحدة. لا يتوفر لرؤساء المحاكم اي تأثير على نوعية وكمية القوى العاملة المخصصة للمحاكم.

٥- المستقبل

إن القضاء لا يدعي بأنه يستطيع من تلقاء نفسه إنجاز ما تقوم به لحد الأن وزارات عدل بلدان الإتحاد الألماني على نحو اسرع وأحسن وبشكل تلقائي. يجب ان لا يوبخ القضاة ووكلاء الإدعاء العام إذا ما تحملوا مسؤلياتهم بجدية وقاموا بمهمتهم الموكلة إليهم بموجب المادة السادسة من البرتوكول الاوربي لحقوق الإنسان بشكل افضل من الوقت الحاضر. يجب إيلاء الحق لأصحابه, ممن يحتاجون الحماية, بأمثل وافضل طريق ممكنة. وإن كان ذلك غير ممكن دون تجربة هيكليات جديدة يجب تجربتها. وقد اثبتت الهيكليات القائمة وللأسف أنها ليست افضل من النماذج الاخرى. إن إحتمال حصول تغييرات هيكلية هكذا يقولون إستشاريي تطوير الأعمال تزداد مع زيادة المعاناة وتفترض وجود بصيرة رائدة. إن معاناة المواطنين من القضاء في بلدان الإتحاد الألماني اصبحت كبيرة جداً. إن السلطة القضائية ذات الإدارة الذاتية تعد بأحكام قضائية سريعة, كفوءة وقريبة من المواطن وقابلة لمواجهة المستقبل, اي بكلمات اخرى تعد بقضاء افضل. لذا يتعين على دولة القانون ان تفتح المجال امام هكذا إختيارات.