23 ديسمبر، 2024 1:53 م

إستعادة المفتقد …../ حوارية الشعر.. الشاعرة… رسمية محيبس في (ثرثرة)

إستعادة المفتقد …../ حوارية الشعر.. الشاعرة… رسمية محيبس في (ثرثرة)

(لماذا توزعين الحنّاء على الفقراء ؟
 لكي ينهضوا صباح العيد
وأيديهم ليست فارغة ).
بعد قراءتي الثانية للمجموعة استوقفتني طويلا هذه الاسطر الشعرية..رأيتُ فيها قصيدة قصيرة مكتملة..فيها تكتمل شروط النص العميق بقصره.. وإذا كان السؤال يومىء الى بخل السائل وأعتراضه على هذا الاسراف واذا كان السؤال يضخ تعاليا طبقيا..فأن الاجابة  عرفت غاية السؤال ،لذا دخلت كرة الاجابة
مسجلة هادفا ذكيا..كما ان الاجابة لم تكتف بذلك ،بل اخبرتها
في طيتها عن توقيت توجيه السؤال ،وهكذا كقارىء سأعرف ان السؤال كان قبل حلول العيد بيوم..وربما توجه السؤال في ليلة العيد والحناء بمثابة اول عيدية  أي أول  عملة نقدية تنالها ايادي الفقراء..ولنحدد راحات الفتيات ..
في هذه العينة الشعرية التي التقطتها من قصيدة (العيد/ 48- 50)..ازاء  حوارية :صوت تساؤل / صوت إجابة.. وستكون الحوارية هي القوة الدافعة للسيرورة من خلال ثلاث أسئلة :
*من أي القبائل أنت ِ؟
*لماذا….الحناء؟
*لماذا تحدقين في وجوههم الصفر..؟
وسيكون جواب السؤال الاول : أنا من قبيلة الدموع *
وستكون الاجابة الاطول من حصة السؤال الثالث..
وآليات الحوار الشعري.. لها السيادة في مجموعة (ثرثرة) للشاعرة رسمية محيبس….والحوار يشتغل على ثانئية الداخل/ الخارج
في (الألم الغريب) وهي القصيدة الاولى في المجموعة، نقرأ السطر الاول:(لمن هذا الصوت
                 الممتلىء بكل هذا المطر)
وسنعرف في نهاية القصيدة انها ذات سيرورة داخلية/ منولوغ..
ونستلم معلومات عن ذات نسوية :
*وماكنت أسيرة سوى لذكريات لاتهدأ
*متوزعة بين هذا الضوء وبين السكون
*متعبة أنا..
لاأشير سوى للأعاصير الميتة
*خجلة أمام المرايا..
*سأنزع هذه النجوم الملتصقة بي
وهذا المنولوغ سنلاحظه في (نهايات) القصيدة  الثانية في المجموعة الشعرية..بملموسية عالية، من خلال شريط الذاكرة التذكارية..يتم استحضار الغائب (ظهيرة لايملؤها حضورك/)
وأشخص وفق أنتاجيتي ل(ثرثرة) ان الذاكرة التذكارية في قصائد الشاعرة رسمية محيبس من خلال فعل الماضي الناقص (كنت)  شهود عدلي العينات التالية من قصائدها :
(كنت أجلس وحدي/ ص11/ قصيدة ثرثرة)
(كنت أتأهب لمجيئها /ص14/ قصيدة بأنتظار القصيدة)
(كنت أجلس هنا وأتأمل مايجري/ ص20/ قصيدة الى الجواهري)
(كنت اقطف من نخيلك وأكبر/ص24/ ظلال تتعانق)
(لقد كانت أيامي
وكنت أحدق في كل هذه الألوان /ص37/ فراشة)
(كان ذلك صباحا بعيدا
كنت بلا قيود /ص66/ تغيير)
(حدث اني كنت في شوق اليك/ ص72/ قصيدة(…..) )
(كانت الخطى تتوهج على الرمل /ص86/ موجة)
(وكانت أمي…/ص91/ من يزرع الشوك)
(أعترف اللحظة اني كنت أنتظر وصلك/ ص92/ أرجوحة)
(ماكنت وحدي حين حل الشوق بي
  كنت معي
 كان للهواء نعومة الماء/ ص115/ نعجن الارغفة بدمعة الحنين)..
ان احصائي لفعل الكينونة ..كشاهد عدل يعني ان لهذا الفعل فاعلية تخصيب قصائد المجموعة الشعرية للشاعرة ..وللتأكيد من جانب ثان ان الحاضر معلق بين قوسين تعليقا فينومينولوجيا….ثمة تغيّب بشري يتدرج من الواحد الى الكثرة
(ظهيرة لايملؤها حضورك /ص 8/ نهايات)..
(فقد رقد الكل
  أجلس وحيدة../ص28/ اقتراف )
  (نسيت في محطات البريد أسماء أصدقائي/ص51/ هذا هو وجهك )
(لم اقترب كثيرا منك لتجرحني
كل هذه الأشواك /ص55/ عن الاشواك التي جرحت يدي)
(لاطريق يؤدي إليك /ص72)..
لكن الذات الشاعرة لاتفعل اتصالياتها المجتمعية فقط ضمن هذا المحور..ثمة اتصالية نصية بين الذات الشاعرة ونصها الشعري
(بأنتظار القصيدة/ ص14) (مطر/ص30) وبين الذات والذات الشعرية الكبرى (الى الجواهري/ص20) أو..مع الذات تشكيلية محتدمة تشكلت منها فرشاة فان كوخ..(زهرة عباد الشمس /ص63)..وهناك اتصالية : الذات / شعرية المكان :(من وحي الغراف /ص32)( العودة الى أور/ص98)..أ تأمل هذه القصيدة المشحون بهدوءٍ أزرق..الشفيفة الأنكسار.. التي استعملت وجيز الحكي في الشعري.. والعلاماتي الوامض مرة مجسدا (تفاحة)
ومرة مستحضرا كمخيلة… القصيدة عنوانها مألوف ومستعمل بوفرة لكن الشاعرة رسمية محيبس تناولته بخبرتها الشعرية
فتخلص النص من الزوائد كافة،وهكذا كانت الكتابة بالحذف أكثر بلاغة من الكتابة بالتثبيت المطوّل.. سأثبت القصيدة وبالتالي اتناولها:
               في عيد الحب
            في عيد الحب
           من عام فائت
           قدمت لي تفاحة
          وبطريقة ناعمة
          قلت : خذي
           إنها لك
          التهمتها بسرعة
      آسفة كان يجب أن أحتفظ بها
        لاعليك.
       هي لك على كل حال

نلاحظ ان العنونة تفعل فهمنا للنص بشكل سريع..  وهي من العنوانات الاشتقاقية كما علمنا العابر الاستثنائي الاستاذ محمود عبد الوهاب في (ثريا النص).. فهو عنوان القصيدة ومفتتحها ..ثانيا ان الحكي يشتغل على الذاكرة التذكارية..(من عام فائت )..ثالثا نلاحظ ان الشعري يتماهي اتصاليا في الأنثربولوجي (تفاحة)..ولايكتفي بذلك بل يشتغل في تضاد مع الانثربولوجي المتعارف عليه حول التفاح… وهنا نعتمد على فطنة القراءة
في التعامل مع شفرة السطر التالي..
(ألتهمتها بسرعة ..
 آسفة كان يجب أن أحتفظ بها)..مابين القوسين يتمفصل في نسق ثلاثي
*الإلتهام…………………ألتهمتها
* الأسف…………………..آسفة
*الاحتفاظ وجوبا ———- كان يجب ان احتفظ بها
التفاحة في النص..أعادتني الى النص قديم ..يقول فيه احد الشعراء..
قطعتُ برتقالتي نصفين
أعطيتك نصفا
وأعطيت النصف الآخر
لك ِ أيضا..
لو قارنا هنا بين التفاحة في نص الشاعرة والبرتقالة في نص الشاعر لوجدنا الاختلاف..في تمام الوضوح..في البرتقالة ثمة أثرة صوفية متعالية في البذل ..في التفاحة ثمة أنا..مدفوعة بقواها الذاتية الى الداخل وليس الى الخارج..وهي أنا سرعان ماتعي انها اقدمت على الفعل الخطأ ،لذا فهي تعتذر لذاتها قبل اعتذارها للمهدي (آسفة )..ولاتكفي بأعلان الأسف.. بل تضيف..(كان يجب ان احتفظ بها)..لكن قبل هذا الاعلان والتأسف..ثمة ايماءة شعرية شفيفة..تلقي تبعة فعل الانثى على الرجل.. فالأنثى تحمل نبرة الرجل مسؤولية كل ذلك..(بنبرة ناعمة ،قلت : خذي )..ان تثبيت نوع النبرة ليس فعلا اعتباطيا،بل له وظيفته الايمائية ،ربما تعني ان هذه النعومة الذكورية تخفي في طيتها الكثير من افعال الذكورة في هذا المضمار..أليس الشعور كلمة تخفي أعدادا من الوظائف الجزئية،تسويات عاطفية،انفعالات مشوشة،حالات وجدانية داخلية ..حدوس ..ضمن فلسفة الإرادة لدى بول ريكور ؟(2)…في ذكرى ذلك اي في عيد الحب…(واليوم وفي ذات الموعد )..سيحضر الرجل الغائب لابشخصه بل برائحة غوايته للأنثى..
(إجتذبتني تلك الرائحة
كان بأمكاني ان امد يدي
لاقتني
لكن اين يداك
وهما تحتفظان برائحة التفاح
على كل تفاحة نكهة يديك
وقلبك )..ان الانثى لديها امكانية اليد،لكنها  إمكانية مقيدة بشرط غياب الرجل..(إين يداك..)..والرجل  معرّف لامن خلال يديه بل من رائحة  بثهما لرائحة التفاح ( تحتفظان برائحة التفاح ) اذا كان للتفاح سطوة الرائحة فأن ليدي الرجل مؤثريتها في التفاح(على كل تفاحة نكهة يديك وقلبك ) والرجل من خلال يديه ليس غائبا أو مغيبا بل منشغلا بتوزيع قلبه في القلوب..
(تحلقوا حولك
وقد اجتذبتهم الرائحة
والقلب الذي يقسمه الحب
الى محطات
ويضيئه بسحر غريب)..
ستعود الشاعرة رسمية الى سيرة التفاح في قصيدة..(أرجوحة)…حيث يرد ذكر العلامة ذاتها(والتفاح الذي يكلأ أغصان روحي/ص92)…في منتصف القصيدة..التي وظيفتها حل نزاع الذات في اشكالية التناسب اللاتناسب فيها….
في قصائد(ثرثرة) للشاعر رسمية محيبس..تكون اهم وظيفة للقصيدة استعادة المفتقد…فيحصل فعل القراءة على محطات شعرية تستحق التوقف عندها والتمعن فيها….
(1)رسمية محيبس/ ثرثرة/  دار تموز/ دمشق/ 2013
*الغت قراءتي سؤالا وفق حريتها في التلقي وليس من باب دكتاتورية الحذف…
(2)بول ريكور/ فلسفة الإرادة / الإنسان الخطّاء/ ترجمة عدنان نجيب الدين / المركزالثقافي العربي/ بيروت/ ط2/ 2008