لنقل عن الجسد إنه مدينةٌ، وإنَّ شوارعها وأزقَّتها، وحاراتها القديمة، وعماراتها هو ما يوجد فيه من مواطن الألم واللذَّة، فإذا كان الجسد بهذه المثابة، لم يعد من المستغرب أبداً أن لا يعود الجسد ملاذ المرء إلا في تلك الحالة التي يعيش فيها الحياة قسراً، وبناءً على هذا، فإنَّ الجسد، على الرغم من أنه يشكِّل ضرورةً قصوى للإنسان، إلا أنه لا يكون على نفس الدرجة من الأهمية بالنسبة لإنسانٍ لا يرغب أن يعيش الحياة إلا بوصفها سحابةً تهطل بالمطر قليلاً في قلب الصحراء.
أنا أفضِّل الجسد الصحراء على الجسد المتصف بالمدينة على أساس ما يأتي:
1- إذ يكون الجسد مشتقّاً من لحم الصحراء ودمها مباشرةً، لا يكون عصيّاً على أن يتحوَّل موضوعاً للشعر بسهولةٍ، خلافاً للجسد المنحدر من سلالة المدينة، فإنه نادراً ما يكون موضوعاً للشعر، وإذا حدث أن تحوَّل الجسد المدينة شعراً، فغالباً ما يكون هذا التحوُّل مصحوباً بكارثةٍ من قبيل أن يتخذ الناس في نظر القصيدة هيآتٍ لا تليق ببني آدم، كأن يكونوا قطيع خنازير، أو كوكبةً من القرود التي ينكح بعضها بعضاً من دون مراعاةٍ لشروط النسل، ولا تقولوا إنَّ خيال الشاعر معتدٍ في هذه الحالة، فإنَّ من طبيعته أن يرى الأشياء كما تبدو لعين الحالم أو العارف، وهذا ما يشكِّل الضرورة القصوى للشاعر في نظر العالم.
2- الجسد الصحراء للشاعر موكولٌ إلى الأسرار المودعة في كيان العشب، بمعنى أنه يعشق كثيراً كثيراً، ولكنه لا يعانق المحبوب إلا خيالاً، فإذا عانقه كما هو في الواقع، فإنه يشعر بأنَّ العالم على حافَّة الهاوية، وهذا ما يجعل الشاعر ذا الجسد الصحراء يقدِّس فكرة الرحيل إلى حدٍّ بعيد، ففي الرحيل معنىً يلامس فكرة العناق خيالاً، فلا تحاول أن تحدِّد مع الجسد الصحراء للشاعر موعداً حقيقياً للقاء.
3- في الجسد الصحراء خاصِّيةً أخرى، وهي أنه يعيش التوثُّب باتجاه الدهشة على الدوام، آية ذلك أنك لا ترى الصحراء تبلغ سنَّ الشيخوخة أبداً، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي أن تطرأ على ذهن الشاعر فكرة القضاء على سحر الخيام، فإذا فكَّر الشاعر بذلك، وتصرَّف فعلاً بما يؤدي إلى تحقيق هذه النتيجة، فإنَّ بشرة الصحراء تشيخ رأساً، وقد تتحوَّل إلى جلدٍ يابسٍ، وهذا هو السرُّ في أنك لا تجد شاعراً الآن على وفاقٍ تامٍّ مع فكرة الخلود، لأنه فقد الثقة في استمرار نضارة الصحراء إلى الأبد، وصار يستعيض عنها بالتفكير في أن يكون ذا سكرٍ دائمٍ في حانات المجاز.
لنعد للحديث عن الجسد إذ يكون بمثابة المدينة، فلا شكَّ أنَّ الجسد في هذه الحالة لا يشبه غدير المياه، كما أنه فاقدٌ لنشوة العشب بالأرض تماماً، ولا أبتعد عن الحقيقة إذ أقول إنَّ الجسد في هذه الحالة بالذات أقرب ما يكون إلى طعم الملح في الشاي الساخن، أي إنه غير مستساغٍ بالتأكيد.
ومع ذلك، فإنَّ الجسد الذي يتخذ له هيأة المدينة يعجب النساء اللواتي لا يشبهن الخيام كثيراً، فإذا ما شاء الشاعر أن يكون جسده بهذه المثابة لم يعد شعره قادراً على الجمع بين خاصَّتي الغزل والعفاف، بل لا بدَّ أن يميل باتجاه الفجور، حتى وإن لم يكن الشاعر قاصداً إلى تمجيد الفاحشة، فلا يملك الشاعر من أمره شيئاً ما دام جسده ضاجّاً ومزدحماً كجهنم في جوف الفراغ.
على أنني لا أشعر بأية رغبةٍ في غزل النساء جميعاً، لا أشعر برغبةٍ بالخمر كذلك، على الرغم من أنَّ موطن الملائكة الكرام يتمثَّل في هذين المقامين فقط، مقام الغزل، ومقام الخمر، وحتى لو عاد السهرورديّ مرَّةً ثانيةً إلى الحياة، وشاء أن يحاورني بهذا الشأن، فإنني سأردُّ عليه قائلاً: فقدت شهوة الجسد للمكان والزمان ببساطةٍ، أمّا الروح فلا تفضِّل الغزل إلا بنفسها، الأمر الذي يعني أنها لا تحسُّ بمعاناة العشق على طريقة شعراء الغزل العاديين، كما أنها لا تفضِّل جلسات الخمر والندامى إلا بأن تكون أحلامها التي لا تصحو منها أبداً تجسيداً واقعياً لكلِّ ذلك، فدعني أرجوك، دعني أعش حياتي بهذه الطريقة، ولا أريد أن أسمع أخبار العرفاء والمتصوِّفة بعد ذلك، فأنا مجرَّد وتدٍ مغروزٍ يجذب إلى الأرض حبال خيمة السماء، فإذا شئت أيها السهرورديّ فكن ديمةً وأمطر على الصحراء، كن ديمةً وأمطر، لأشعر بالمنَّة العظمى لك على كائنات الصحراء كلِّها، بما في ذلك نفسي، وبما في ذلك الخيال الذي يستفزُّني في بعض الأحيان لكتابة الأشعار.
الحضارة أرهقت لغتي، أثقلتها بمختلف الأعباء، وأقلّها أن تتحوَّل إلى مشنقةٍ في كلِّ حينٍ، ومن المشنوق في واقع الحال سوى اللغة ذاتها، وبناءً على ذلك فإنَّ لغة الحضارة تنتحر، تنتحر في كلِّ آن، وليس كذلك الخيال المولود في الصحراء، ليس كذلك على الإطلاق، فمن السمات الملازمة للصحراء حين تتحدَّث أن يكون جبرائيل جاهزاً لتوقيع الكلام بموسيقاه، أي إنَّ الله هو المصدر الأكيد لذلك الإيقاع، وإنَّ كلاماً هذه صفته لا يمكن له أن يموت بطبيعة الحال.