23 ديسمبر، 2024 4:56 م

أتعجب من إرادة البذرة الصغيرة الساكنة الجافة وما تختزنه من حلم التحول إلى شجرة وبستان , وهي ميتة ويمكنها أن تؤكل أو تسحق , لكنها ما أن تأوي إلى التراب وتسقيها السماء , حتى تتمخض عن نبتتة ذات تسامق وإنطلاق للعلاء.

وكلما تساءلت عن البذور الكامنة في أعماق المخلوقات وآليات إنباتها , أقف متحيرا أمام صيرورات كونية عُظمى كامنة في كينوناتٍ صُغرى.

فما أكثر البذور الحائرة في أعماقنا , وما أجهلنا وعجزنا وعدم قدرتنا على توفير الظروف الموائمة لإنباتها وإنبثاق ما فيها من العطاءات والتطلعات الحيوية.

وعندما أعود للإسلام وكيف أنه تمكن من إطلاق ما في الأعماق العربية بقدحة فكرة وتحفيز إرادة , وتعليم مهارة الإنبات والرعاية والإستثمار في طاقات الدنيا الذاتية والموضوعية , وكيف تمكن من جني أثمار الأشجار المتسامقة في أعماق البشر , أجدني أدرك أن الإنسان يمكنه أن يكون حجرا أو شهابا ثاقبا يخترق الحواجز والمصدات ويصل إلى مبتغاه الذي يحدده ما فيه.

وما نسميه بالثورة في عصر النبوة وما حولها , إنما يعني هذا التحول الإنمائي التفاعلي المثمر الذي أنتجته مكتشفات وآليات الإنبات والرعاية , وتوفير الظروف اللازمة لإنطلاق أشجار الوجود الإنساني الوارفة الطيبة ومشاركتها في صناعة المروج النظيرة الباهية.

لقد أطلق الإسلام الشوق الفياض في الأعماق نحو وجود إنساني جديد يضع البشرية في وعاءٍ عولمي ذي إتساع وقدرات إستيعاب وإمتزاج , فالإسلام هو الذي أوجد فكرة العولمة , لأنه جاء للعالمين , ووضع البشرية على بساط المساواة ولا فرق بينهم إلا بالتقوى , ولا يمكن لأحد أن يجزم بذلك إلا خالقهم العظيم , الواحد الأحد العزيز الحكيم.

فما فينا من الأشواق التخلقية تحدد هوية وجودنا وعنوان كينونتنا , وما دمنا تناسينا بأن الإنتصار يتحقق بطاقة المحتوى وليس بقدرات الهوى والمنضوى , فأننا وفرنا للعجز فرصا ومنحناه مهارات لتأكيد دوره وسلطته وقدرته على إبادتنا وتدمير كياننا وتفريق شأننا.

فكيف تحوّل المسلم من سهم ناشب وهدير صاخب , ونجم ثاقب , إلى وجودٍ شاحب , وتناحر دائب , ولقمة بفم وحش ساغب؟!

المسلم الذي أغفل بذور أعماقه , وإشترى الضلالة بالهدى , فترعرعت في دنياه بذور الأشواك والحنضل , وتنامت أشجار الكراهية والبغضاء , فنسي جوهر دينه وجمان قرآنه , فانحنى وتآكل , وإدّعى فتقاتل , وأوّل فتجاهل , وتغافل فتحامل , وخنع فتضاءل , وأذعن لغير الله فتخاذل , وصار إلهه هواه فتهازل , وبالفرقة والشحناء تواصل.

“يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم”؟!

ألا تساءل؟!!