23 ديسمبر، 2024 6:22 م

إذ يقول لصاحبه إحزن ليس الله معنا لروحك التي أرتفعت عاليا.. إلى قاسم مطرود

إذ يقول لصاحبه إحزن ليس الله معنا لروحك التي أرتفعت عاليا.. إلى قاسم مطرود

أن ترحل بهذا الوقت تماما فهو الدليل الألف على عراقيتك التي لم تمنحك غير الوجع, وقبل أن ينقل جسدك الى تراب العراق الذي أوصيت أن تدفن فيه يقيم الموت إحتفالا غير مسبوق لأستقبالك بإزهاق الأرواح .

ما أن يرحل أديب عراقي حتى ترتفع درجة الحرارة في النخوة والشهامة وتلاحظ فورانا ما من الأكبار والتعظيم والتبجيل وعشرات من المواقع تبرز الخبر في صفحاتها الأولى وحشد من الضائعين يحاولون بكل طريقة أن يثبتوا علاقتهم العبقرية بالراحل ومدى خصوصيتها وعمقها وشفافيتها التي لا ينقصها الا طبع القبلات, لا غرابة مطلقا حين تستوعب المشهد كاملا تجده اثبات مرة أخرى لأنتماء الى عراقية ممزقة ومهشمة , كائنات تبحث عن وجودها الذي تحس أنه مستلب بسبب هوية لم تمنح أحدا غير القتل والتشريد . فلا تصدقن أبدا تلك المشاعر الفياضة واتركها لأسبوع واحد لتلحظ عدميتها وهشاشتها فما هي إلا محاولة بائسة لنفخ النار في الرماد , محاولات أقل ما يشوبها أنها نرجسبة فردية كل منها ينصب على أخذ صورة تذكارية جنب الراحل الذي لم يعد مخيفا في صراع اثبات الوجود الذي يقوم به الغالبية وأقوى ملامحه تهميش وتجاهل وفي مرات كثيرة محاولة تمزيق أية إنارة جاذبة لكاتب ما فهو من التابو المحرم وجريمة كبرى مادام الكل يعاني ولو لاشعوريا بحرب ضروس لأظهار الذات. قد لايكون هذا الكلام طيب الأثر ولا يصلح بالمرة لأفتتاحية مقالة أكتبها عن قاسم مطرود المسرحي الراحل حديثا إلى عالم الصفاء , لكني أكتفي بالقول أني لا أريد أن اسجل مفخرة لنفسي وأي ثمن باهت هو لا أطلبه بعد أن أدركت أن النفخ بالرماد ليس من إختصاصي . ولن أدعي أيضا قوة وصلابة معرفتي بقاسم رحمه الله فهي علاقة قصيرة الزمن لكنها لاتعلن براءتها من الحس الأنساني الموجع , فقد كانت تسير في الخفاء يعتصرني فيها الألم على مشهد أجد فيه نفسي بإنتماء لعراق لا يمنح الا التبرأ والنكران وأية مصادفة أن أتعرف على قاسم وعائلته في وقت كانت حالته الصحية آخذة بالتدهور وكان من أهلي من ينقل لي ما يلمُّ به تفصيليا وحتى لقاءاتنا التي لم تتجاوز المرتين وجدت فيها روح ذلك الرجل المأسورة برغبة عارمة أن يعلن عن قوته وأنه غير منكسر في مواجهة الأعصار , تلمست هذا بعمق ولم أستطع أن أقول له لا فائدة ياقاسم فلا نجاة من هذا الغرق الذي يلف كلّ شئ , لقد كان قاسم يعيش حبّا جنونيا للعراق وعاطفة فذة بالسفر إليه ومن منا لا يحس هذا فرغم كل الألم تبقى الجذور ضاربة بعمق. ومرة أخرى أقول لم يترك المرض الكثير وألقى به على سرير الرحيل وما كذب ظني فذلك السرير في حقيقته سرير الوحدة والوحشة والمطبلين والمتباكين أشباح لاتحوم إلا بعد لحظات الوداع , لقد خفت صوته وكان الكلام صعبا تماما عليه وبقيت عائلته تواجه الأزمة بصبر جميل , ولا عجب .
وحدة حقيقية أن لايعرفك الناس إلا بعد موتك , يكفي أن تنظر أن من دخل على روابط اليو توب التي وضعها قاسم نفسه لم يتعد 150 رائيا , تكريم رخيص له بدرع الأبداع في العراق يقام على طاولات مطعم مغمور بصوت مقدمة تشبه مقدمات النوادي الليلية , وصدق قاسم حين قال أن الثقافة تناولتها الايدي غير الشريفة فسببت لها العزلة. كانت اهلي ينقلون لي أخباره وكان إحساسي يخبرني عن رحيل قريب له عن هذا العالم المرير لكنه رحيل يتم بلا تخطيط بل يتسارع ولم تفلح الجهود بتقديم وقت زواج ابنه الذي كان يؤمل أن يحضره ومع اشتداد التدهور اقتربت لحظة الختام التي تلمستها قبول حصولها في مكالمة أخيرة لزوجته قلت لزوجتي وهي تكلمها قبل ساعات من المنية أن تقول لها عني( والذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون) لكن زوجي رأفت بها ولم يرأف الموت. يمضي الأديب وتفخر مكاتب القرار في دولةاللا قرار أنه تكفل لجثمانه نقلا إلى حيث يوارى الثرى وتعدها مكرمة أما الثرى الحقيقي فهو في التجاهل التام الذي يلف الجميع عدا الملتفين حول طاولات السياسة الكاذبة ويموت الأديب فقيرا لم تحصد يده ملايين السرقات وكل هداياه من الكتابة كتب كتب بلا عدد تهدى له أينما ذهب.

مقطع مسرحي لقاسم
صوت طلقات رشاش متقطعة يعقبه انفجار يعم خشبة المسرح وغبار يملا الفضاء كله..صمت.. شيئا فشيئا يهدا عصف الانفجار, ومن التراب المتطاير نشاهد الجندي الأول الذي يحمل وعاء كبيرا.. يتقدم إلى الأمام..

[email protected]