بداية يجب أن نفهم أننا لا نطرح هذا الموضوع وغايتنا التسقيط, أبداً, بل الغاية أولاً أن نوصل حقيقة قد تكون غائبة حتى علي من يُعنون بالشأن البحثي الأكاديمي, وثانياً أن يفهم العامة من الناس أن هؤلاء الذين يصنعون رموز وشخصيات دينية من أجل التقديس إنما يخالفون حتى ما يدرسونه ويناقشونه في معاهدهم وحوزاتهم وأن الإشكالية التي يريدون حلها غاية فهم الدين, يتعمدون استغفال الناس فيها لإضلالهم, وهذه مقدمة تفصيلها:
عندما اتفق أكثر كبار علماء الإمامية وبعد جهود بحثية كبيرة ولأجيال متعددة على وجوب أن يرجع العامي إلى المجتهد, كان السبب في ذلك أن الأحكام أصبحت ظنية بسبب الابتعاد عن عصر النص ومصدر التشريع, نعم الأحكام ظنية, وهذا هو المفهوم من أنه لا تقليد في العقائد ولا تقليد في المسائل القطعية في الفروع, فلا تقليد في وجوب الصلاة ولا وجوب الصيام ولا الحج ولا كل ما عرف بصورة قطعية, فإذن ما يتم التقليد به وإتّباع رجل الدين فيه هو الأحكام الظنية.
فمشكلة الابتعاد عن عصر النص والتخمينات والمزاجيات السياسية ودورها وعدم قدرة العوام على فهم الأحكام هو الذي أوجب أن يكون هنالك مجتهد يبين الشريعة وما التبس فيها.
وهنا من المهم جدا أن نعرف أننا لو راجعنا بحوث الخارج في الحوزات لوجدنا أن صفات مرجع التقليد تُبحث في موضوع صفات القاضي, فمن صفات القاضي أُخذت صفات مرجع التقليد ومنها الحياة, وكما قلنا أنه لا تقليد في العقائد أو القطعيات, وأشترط التقليد في ما لا يفهمه العامة, ومن أهم ما لا يفهمه العوام وكفرع من فروع الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشبهات فيه بما يرتبط بأخلاقية المجتمع وتأثير السياسة والطائفية عليه والرؤية العامة للاقتصاد والتكافل الاجتماعي وتربية المجتمع سواء بطبقته الحاكمة أو المحكومة, فمرجع التقليد كالقاضي إلّا أن قضاءه أخلاقي, من المفترض أنه نابع من رسالة ربانية يعتمد عليها فيما يحكم.. ويشترط مع حكمه وقضاءه الحياة.. ولهذا عندما يحكم القاضي بحكم يكون سارياً بعد موته, أما إذا جد أمر مستحدث على نفس القضية وجب الرجوع إلى الحي. وكذالك الحال بالنسبة للأمور الاجتماعية الأخلاقية التي تمس دعوات الجهاد وحفظ الدين ووحدة المسلمين والسياسة وظروفها وكل الملابسات والشبهات والفتن المحيط بها من تشكيل الجماعات المسلحة داخل البنية الاجتماعية للمسلمين, هذه كلها يجب أن يبت فيها من وضع نفسه مرجعاً للمسلمين مباشرة ؟. ولماذا مباشرة؟ لأن الدين في الأساس أبتعد عنا مصدره وعصر تشريعه فاختلفت التفسيرات للدين حسب المذاهب, فكيف يمكن أن يموت المرجع أو يكون على قيد الحياة صامت ولا نسمع كلمة واحدة منه وتصبح التفسيرات لرأيه أيضا عديدة وتعود مشكلتنا بموته أو صمته عينها التي نعاني منها بسبب الابتعاد عن عصر التشريع! فلنركز ولنفهم المشكلة
إذن نكرر, من يبين موقف الدين من الأحداث؟ الجواب هو مرجع التقليد المجتهد وكيف يكون بيان المرجع من المفترض أن يكون مباشرة ومشافهة وخصوصاً بعد التطور في وسائل الإعلام لإلقاء الحجة القطعية على الجميع..
لكن تعالوا نرى كيف أن عشرات التفسيرات للمواقف والأحداث منذ أخذ الإعلام السياسي ينطق بدلاً عن المرجعية, فوكلاء المرجعية يعطون عناوين عامة وعريضة منذ 2003 وتفصلها الجهات السياسية كل على مقاسه, فالمالكي وحزبه شخّص لنفسه موقف خاص ومكانه متميزة من المرجعية, بينما قائمة الحكيم أطلقت على نفسها قائمة المرجعية, أما مقتدى الصدر فينطق عن بدلاً مرجع ميت وضع نفسه ومجموعة من السلوكيين بدلاً عنه ويرى انه ذراع مرجعية السستاني, أما المليشيات فترى أنها المجاهدة والقاتلة لكل العملاء بفتوى الجهاد المشرعنة من المرجعية أيضاً, بل أن هذه المليشيات تضفي مباركة من السستاني على خامنئي علماً أن الأول لا يعتقد بولاية الفقيه للثاني, أما قائمة العبادي فترى أنها القائمة التي يجب أن تضرب بيد من حديد على رؤوس الفاسدين وأيضا بأمر المرجعية, وأما مصطفى الكاظمي فيرى أن أمر المرجعية متوجه إليه بحصر السلاح المنفلت والخارج عن القانون, بل حتى بعض المتظاهرين الذين اغتالتهم مليشيات الفتوى يرون أنهم مباركون من المرجعية وأن المرجع قال لو أسعفتني صحتي لكنت معهم!.
ومن هنا يجب أن نفهم المشكلة حقيقياً ولا نكن كالنعامة تغط رأسها في التراب إذا ما داهمها الخطر, ونوجه البحث باتجاهه الصحيح وهو:
إذا كان السياسيون في العراق وأحزابهم طرف قد وضعوا لنفسهم امتيازات خاصة ضمن الدستور والقوانين الوضعية فالطرف الآخر هو الشعب وهنا مهمة المجتهد هي مهمة أخلاقية عنوانها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبيان وهي أن يحكم ويقضي ويبين الموقف المتشرعي بنفسه تجاه الأحداث ويبين إرادة السماء فيما فهمه من الشريعة لحفظ النفوس البريئة ولإقامة العدالة الاجتماعية , فكيف يمكن أن يكون الطرف الحاكم بما يمثله من أحزاب فاسدة وإعلام غير مهني هو من ينطق عن المرجع حتما أنه سيفسر الدين والعناوين العريضة التي تطلق حسب مزاجيات الأحزاب ومصالحها ونفوذها.
إن الدين والمذهب هي القوة التي يعتمدون عليها, وقد جعلتهما المرجعية بعنوانها المفسر للإسلام والمذهب ألعوبة بيد الأحزاب ومليشياتها, وهذا الذي يفسر السبب الذي سعت فيه الأحزاب لحصر المرجعية بعد 2003بيد المراجع الأربعة لأنهم لا ينطقون, ويستطيع الإعلام السياسي أن يفسر الدين والمذهب حسب مصالح الأحزاب ومن هنا لابد من إتاحة المجال لكل العلماء العراقيين المستقلين المعتدلين وبمختلف مذاهبهم لأخذ دورهم و بيان وجهة نظرهم فيما يجري من أحداث والتثقيف والارتقاء بهذا المجتمع الديني وإلّا بدون قاض أو حكم فصل سيشتد الصراع وتشتد معه كل المآسي والدمار.