23 ديسمبر، 2024 10:05 ص

إختلاط الباطل بالحق في التظاهرات الأخيرة

إختلاط الباطل بالحق في التظاهرات الأخيرة

بداية لابد من التوضيح، أنني لست في وارد الدفاع عن السلبيات الموجودة في إقليم كوردستان، ولكني لا أريد أيضاً تجاهل الإيجابيات. ولست ضد التظاهر من أجل المطالبة بالحقوق المشروعة لشرائح مهمة في المجتمع، ولكني أكره مداعبة العواطف وإستغلال مأساة الآخرين لأهداف حزبية وشخصية، ولا أريد أن يستغل أحدهم مأساة الآخرين لأهداف إنتخابية، ويصعد على أكتاف المتظاهرين ليصل الى مواقع في البرلمان والحكومة، كما حصل بعد تظاهرات شباط سنة 2011، أو يستغلها بعضهم لإحراج الحكومة، أو الإطاحة بها وإسقاطها أو حتى تغييرها وفق شروط غير دستورية لاتستند الى نتائج الإنتخابات، وسحب الأمور نحو المزيد من التعقيد والارباك.

من يقرأ أحداث السنوات السابقة وأسباب المشكلات الموجودة، والمشهد السياسي الكوردستاني الحافل بإمتياز بالملفات المهمة والمؤشرات الواضحة والاستحقاقات المنتظرة، بعيداً عن أية احتقانات ومواقف مسبقة، وبعيداً عن أية حسابات ومصالح خاصة، سيقف عند حقائق عدة أهمها:

أولها، ظهور المعارضة السياسية في كوردستان مع إختلاق الأزمات وظهور المشكلات الإقتصادية التي تلامس حياة الكوردستانيين عموماً .

ثانيها، أن التجربة الديمقراطية التي عرفناها، إستمدت قوتها من شجاعة وجرأة الشعب، وأعطت مضموناً دقيقا للحياة السياسية، ومنحت وقتا كافياً للنخب والأحزاب لبلورة سياساتها المبنية على المصداقية وإستقلالية القرار، وزادت مناعتنا عند أحداث ما كان يسمى بالربيع العربي، وتجاوزنا بفضلها تقلبات القرار السياسي الذي كان يسعى للرجوع إلى الوراء.

ثالثها، صناديق الاقتراع، في آخر انتخابات تشريعية، لم تمنح طرف سياسي معين مقاليد السلطة ليستطيع تجاوز البعض دون الدخول في خانة الأقصاء والتهميش، لذلك كان لابد من عملية سياسية تستوعب الجميع، رغم إختلاف البرامج السياسية.

رابعها، عاش المشهد السياسي صراعاً مشحوناً بين الاطراف المتشاركة في السلطة نهاراً، والمتعارضة ليلاً، على القنوات التلفزيونية، حتى تم تجاوز مشاعر وإرادة الذين حققوا لها أمنية المشاركة في السلطة، والأنكى من ذلك، بعض السياسيين حاولوا نقل اللعبة وآليات حراكهم الى بغداد، وكذلك الإطار الإقليمي وفتح باب التدخلات على مصراعيه، وتناسوا بأن الذين ظلمونا وما زالوا يعادونا، أكثر بكثير من الذين يؤيدوننا.

خامسها، فتح الباب واسعاً لكل الاحتمالات وخلط الاوراق وبعثرتها الى أبعد الحدود، من خلال أفتعال أزمات متنوعة العناوين والمسميات والخلفيات، وترك نهاياتها مفتوحة وغامضة ومجهولة المسارات والمآلات.

سادسها، طرح مبررات وحجج غير منطقية وغير معقولة تحول دون تفكيك وحلحلة العقد المستعصية بين الفرقاء الى اشعار آخر، وتؤدي إلى الانتقام وتعميق الهوة بين المواطنين وشق النسيج المجتمعي وفقدان الثقة المتبادلة أو التوازن وتشيع البغضاء والكراهية والغضب بين أبناء الوطن.

سابعها، عدم الإنسجام، والإنقسام تجاه الثوابت، وعدم وضع مصلحة المواطن معياراً حقيقياً وقيمة عليا، ودخول الوافدين الى العملية السياسية، من الشارع السياسي بدلاً عن المدارس السياسية، أدت الى غياب الثقة، وطرح شروط ومطالب تبدو متطابقة أو قريبة من الابتزاز.

ثامنها، كوردستان وإن بدا ضعيفاً في الوقت الحاضر، لكنه يمتلك إمكانيات كبيرة للصمود والنهوض بسبب قدراته الاقتصادية وعلاقاته الدولية الواسعة، وتأثيره في المنطقة، وهذا ما تجلى في إحتوائه لآثار صدمة أكتوبر بزمن قياسي. وهو ما أدركه الجميع جيدا، حين بدأت المواجهة بين بغداد وأربيل بعد الإستفتاء، وحين عرض البعض خدماته المجانية لمعاداة شعب الإقليم وحكومتهم ورئيسهم .

وتاسعها، عندما طمأن نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة الإقليم، المواطنين بأن الوضع الاقتصادي سيعود إلى حالته الطبيعية، وأن كافة الأمور ستعود إلى نصابها الطبيعي. فإنه متأكد من أن الأحداث أفرزت واقعاً جديداً سيكون درساً وعبرة وعظة للأجيال القادمة، واقعاً خسرنا فيه الكثير، ولكن بعد أن حدث ما حدث، لا بدَّ من البحث عن الجوانب الإيجابية بهدف إحتواء آثار الصدمة وتجاوز الأزمات، وإستيعاب وإحتواء المخطئين، والإستمرار في المضي إلى الأمام من أجل نشر قيم الكرامة والحرية والعدالة والمساواة، والدعوة للتهدئة والحوار وقبول الآخر والمحافظة على المكتسبات وإستكمال مسيرة البناء والإعمار وتعزيز الأمن والاستقرار.

وعاشرها، لابد من الإبتعاد عن تبادل الاتهامات والتخوين، سواء كانت حقيقية أم مستحقة، في الجلسات العائلية أو الحزبية أو الإعلام حتى خلال أيام الحملات الإنتخابية أو التظاهرات الجماهيرية، لأنها على الأرض ستصب في صالح المتربصين وستزيد الشقاق بين كل الأطراف، وتمنح الفرصة للتضليل وللنفاق والمنافقين والعصبية العمياء التي تودي بالبلد والشعب إلى الهاوية والأهوال.

وأخيراً، في التظاهرات الأخيرة إختلط الباطل بالحق، عندما إنخرط السياسي المخادع الباحث عن المكاسب الشخصية، بالموظف البسيط الغيور على وطنه وقومه والمنادي بحقوقه المشروعة.