معظم الدول الإسلامية ، إذا لم تكن جميعها ، تمنع قوانينها ونظمها وتشريعاتها التبني لأي طفل سواء كان يتيماً أو غير ذلك من قبل العوائل المتمكنة والراغبة فعلاً بالتبني داخلياً أو خارجياً بحيث تضع التبني في دائرة التحريم وذلك إستناداً الى الشريعة الإسلامية والنصوص القرآنية وفتاوى معظم المراجع والمؤسسات الدينية . ومن يقرأ نصوص القرآن أو كتابات رجال الدين المعروفين أو يستمع الى اللقاءات التلفزيونية والمواقع الإرشادية الدينية فسوف يجد ما لا يتحمله العقل البشري من مغالطات وإرتباك وعدم وضوح وعدم منطقية ما يطرح حول تبرير تحريم التبني في الإسلام ، ولست هنا بخصوص إثبات صحة تحريم التبني من عدمه في الإسلام لأنه محَرّم فعلاً حسب معظم المصادر المعتمدة ، ولكنني بخصوص مناقشة مدى عدم موضوعية وعقلانية هذا التحريم للتبني في الإسلام وإثبات مدى جُرْم هذا الدين كنصوص ومفاهيم أو كتفسير وإجتهادات لمحتويات تلك النصوص وحسب المستوى المحدود لثقافة وإدراك رجال الدين عموماً . ولغرض تبسيط الموضوع يمكن إثارة بعض الحقائق والوقائع ضمن منظومة الدول الإسلامية عموماً ، خصوصاً العربية منها ، إبتداءً من دول الشرق الأوسط والتي تعنيني بالأساس لإطلاعي الواسع عن تاريخها وظروفها وواقعها ومجريات الأمور فيها.
أولاً: إن دول الشرق الأوسط عموماً وعلى مر التأريخ مرت وما زالت تمر بعدة مشاكل معقدة ومستمرة منذ حوالي أكثر من قرن من الزمن سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وأمنياً مما جعل هذه الدول دولاً متخلفة من جميع النواحي ولم تستطيع من تحقيق مستوى العيش الإنساني اللائق كما هو الحال في دول العالم المتقدم في أوربا وأمريكا واليابان وروسيا وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وغيرها.
ثانياً: واجهت معظم دول الشرق الأوسط عدة حروب وصراعات داخلية وخارجية ، وما زالت ، مما أدى الى كوارث إنسانية كبيرة أودت بحياة الكثيرين وتشريد الملايين من البشر حول مختلف بقاع العالم وإنتشار مراكز إيواء النازحين والمهجرين داخلياً وخارجياً ،وليس هناك أوضح مثال ما يدور منذ زمن ولحد الآن في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان وليبيا وغيرها ومدى معاناة الملايين من شعوبها من التهجير والإبعاد والإبادة .
ثالثاً: كانت حصيلة تلك الظروف ملايين من المهجرين في مخيمات بدائية ومئات الآلاف أو الملايين من الأطفال الأبرياء تحتويهم تلك المخيمات البائسة بدون توفير أي من المستلزمات الإنسانية بحيث أصبحت الطفولة فيها عبارة عن دمى تُركن أو تُسحق في أي لحظة وليس لها أي حماية إنسانية أو صحية أو تعليمية أو أي مستقبل لهؤلاء الأطفال الأبرياء . وهناك العديد منهم من فقدوا من يرعاهم وأصبحوا تحت رحمة القدر وإستغلال الوحوش لبرائتهم وضعفهم .
رابعاً: من السهولة جداً إستغلال الظروف البائسة التي يمر بها الأطفال سواء في المخيمات أو في مناطق النزاع ممن لا معيل لهم من أن يُستغلوا أو يُجَندوا مستقبلاً في أعمال مشبوهة أو إرهابية مما يؤدي الى خلق جيل كبير من المرتزقة والمجرمين واليائسين يستغلهم تجار الحروب والمخدرات وغيرهم مما يصعب السيطرة عليهم لكثرة أعدادهم .
وهنا نأتي الى جوهر الموضوع وهو إن هناك مئات الآلاف بل الملايين من العوائل المحترمة والمتمكنة التي تعيش في مختلف دول العالم المتقدم والتي لا تستطيع الإنجاب ترغب بتبني طفل يتيم أو مرفوض وتهيأ له المحبة والحنان وكل مستلزمات العيش الكريم والمستقبل اللائق بالإنسان بدل أن ينتهي واقعه بالإجرام والشذوذ والضياع . والسؤال المنطقي هنا لزعماء الدول الإسلامية والمفكرين الإسلاميين والذي يتطلب إجابة واضحة وبسيطة وهو هل إن إنقاذ طفل بريء لا حول له ولا قوة في الحياة من واقع مزري وغير آمن ومجهول يعيشه في ظل بلدانكم المتخلفة الى واقع إنساني آخر يُؤٓمن له الحب والحنان والحياة الكريمة والمستقبل الواعد في بلدان أخرى يعتبر من المحرمات ؟ إذا كان جوابكم بأن ذلك مُحَرّم حسب تعاليم الإسلام فتباً لكم ولمعتقدكم لأنكم تفضلون إبقاء الطفل البريء ضمن واقعه المزري وعدم الإكتراث بمستقبله المجهول والذي سيكون سيئاً بالتأكيد بدل أن ينشأ ويترعرع في ظل عائلة تؤمن له كل مستلزمات العيش الإنساني الكريم والمستقبل المضمون . ويكفي الإشارة الى بعض الأمثلة من بين آلاف الأمثلة التي نسمع عنها في مختلف وسائل الإعلام وغيرها ، فهناك من الأطفال ممن تُرِكوا في الطرقات أو حاويات النفايات ، وهناك ممن عُرِضوا للبيع أو التخلي عنهم لأسباب عديدة ، ومنهم من تُرِك في المخيمات دون أهل لمواجهة مصيرهم ومستقبلهم المجهول وما الى ذلك.
ولا تقتصر الإنتقادات على الدول الإسلامية فقط بل إن جزء من فقدان الضمير الإنساني إتجاه مسألة تبني الأطفال يقع على عاتق الدول المتقدمة والتي تفرض قوانينها وتشريعاتها بعض المحددات والشروط المتشددة جداً في مجال التبني من حيث ضمان البيئة المثالية للعيش للطفل المُتٓبَنى . وعليه فإن ضياع المستقبل لملايين الأطفال الأيتام والمشردين والقابعين في مراكز إيواء الأيتام وغيرها يقع على عاتق المسؤولين ورجال الدين في الدول الإسلامية وهم من سيتحملون المسؤولية التاريخية والإنسانية عن جعل معظم هؤلاء الأطفال فريسة للجهل والتشرد والضياع والإجرام والمساهمة في ضياع مستقبلهم بسبب عدم عقلانية تشريعاتهم وقوانينهم . وَمِمَّا يؤسف له هو إمتناع جميع الدول الإسلامية من الإنضمام الى معاهدة لاهاي بخصوص التبني للأطفال بين الدول لأسباب متخلفة لعلاقتها بالشريعة الإسلامية . وَمِمَّا يثير الدهشة ان هناك الملايين من العوائل المتمكنة في العالم المتقدم ممن يُعيقهم الإنجاب ويرغبون فعلاً بتبني الأطفال اليتامى من أي بلد من بلدان الشرق الأوسط التي تعاني شعوبها من الحروب والجهل والتخلف لينقذوا هؤلاء الأطفال من واقعهم المزري وإحتضانهم ضمن عوائل صحية تؤمن لهم كل مستلزمات العيش الإنساني الكريم والمستقبل المضمون ولكن تشريعات جميع الدول الإسلامية تمنع ذلك وتفضل إبقاء هؤلاء الأطفال اليتامى أو المرفوضين أو المشردين عندها على حالهم المزري حتى ولو تحولوا الى مجرمين وقتلة بدلاً من أن تُخلَق لمثل هؤلاء الأطفال فرص الحياة الكريمة والمستقبل الواعد لدى عوائل متمكنة مستعدة وراغبة لإحتضانهم كأبناء لهم . حتماً سيحاسب الله كل هؤلاء المسؤولين ومن وضع وتبنى مثل تلك التشريعات التي تُحَرِّم إنقاذ الأطفال اليتامى والمشردين من البؤس والضياع والمستقبل المجهول .