23 ديسمبر، 2024 12:07 ص

هنيئاً للحرب فما أكبر مساحتها, إنها تصلح لأكثر من كتاب, من خلالها يمكن أن نلمس جراحنا, وننظر خلفنا دون حنين ولا رسوم لبطولات زائفة , تصنع موت بعضنا, لم تورثني غير بقايا من الخيبة, طُلب مني أن أخلع وجه الحزن, خذلني صوتي وأجبت باشارة من راسي فقط, معتذراً دون اعتذار, رحتُ أٌطارد كلمات يلفحني أُوَارُها ولربما أكون حصبا لسعيرها.
ففي عصر المعلومات ووسائل الاتصلات الجديدة, انكمش العالم مكانا وزمانا, وسقطت الحواجز بين البعيد والقريب كما سقط الحاجز بين ماهو واقعي ووهمي , وبلغ الاعلام غايته بكل وسائله الحديثة وانماطه العصرية, واصبحت قوة تاثيره أشد خطورة, بل اصبح المحور الاساسي للحرب وقطب رحاها, كانت القنوات الفضائية تبث 300 ساعة اخبارية في اليوم الواحد عن بلدي, ولا أعرف كيف قبلت الاشتراك في برنامج حواري لمدة ساعة على احدى القنوات, تقوم فكرته على معالجة مفصلة للاحداث, اسبابها ومسارها, واكثر ماشجعني على المشاركة بالاضافة الى حب الظهور, هو طلب معد البرنامج أن احلل واتحدث بكل حرية وشفافية, فأبتدتُ الحديث عن المدينة السومرية التي اقطنها, الموغلة في القدم والتي يشم من رائحتها عبق الحضارة والتاريخ, وإنها فسيفساء متعددة الديانات, وكل طيف منها ينتسب الى نبي, بعضهم ينتسب الى آدم وبعضهم الى نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد, وهؤلاء ذرية بعضها من بعض اسلموا لله, يجمعهم لا اله الا الله ما عصم ابناء مدينتي دمائهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله وإذا حصل تنافر فلن يصل إلى حد الإلغاء سواء بالضم او بالتهجير القسري حافظ الجميع على وجودهم بقدر يسمح التجاور والتعايش في بقعة جغرافية واحدة.
وغابة عني في حينها فكرة النظام الرقمي, حيث يتم نقل المعلومة على شكل صفر وواحد وعند وصولها الى المستقبل يترجمها بدوره الى صوت وصورة, فظهر صوتي بالنفي عند نطقي للشهادة وحُذف الاثبات, فشاع في المدينة اني ارتددت عن ديني, اتصلت بمعد البرنامج وقال سوف يعالج الخطأ عند اعادة بث البرنامج بعد يومين, ووقعت الكارثة أن اعيد بث البرنامج وبقي الخطأ كما هو, لقد استخدم الشيطان حبائله وخيله ورجله ثلاثين عام وعجز عن اغوائي حتى مال الى غيري, ولكن الماكنة الإعلامية جعلت مني مرتدا في بضع دقائق, وجعلت من الجهال والمنحرفين والضالين والمضلين أئمة, وصحة الانقياد والأخذ محصورا بهم دون سواهم.
رفع امري الى القاضي الشرعي بتهمة الردة بالاعتقاد, واعتبر دليل التسجيل الفيديوي للقناة مستوفيا للشروط, فأهدر دمي, بقيت مختبا في قبو المنزل وامرت زوجتي ان تذهب الى بيت اهلها.
بدأ الإرهاب الناسف والتطرف يقرع طبول الحرب بفتاوى أجهل الخلق علما واتفههم رأيا, وأصبحت القنوات الفضائية بوقا صادحا لعمليات التسقيط السياسي والمكر والخداع والكذب والنفاق, كل ذلك أصبح مباحا.
إستمر هذا الحال لسنوات, وانا باق في القبو, وكانت زوجتي تأتيني بالطعام بين الفنية والاخرى, بحجة تفقد المنزل, وعندما يسدل الظلام ستاره اصعد إلى سطح الدار, أشم الهواء الطلق الممزوج بغبار المقذوفات المتلاشية في سماء المدينة كأنها شهب ضالة تعقبها أصوات الخوف والحزن وبكاء الأطفال, بعدها دخلت الأمم المتحدة لحَيّنا, توزع مواد إغاثة تسللت إلى إحدى الشاحنات, عَلَّنِي اعبر الحاجز المليشياوي من دون تفتيش, ولكن حدث العكس وألقي القبض علي, لم يتعرف علي أحدهم كان وجهي شاحبا ولون بشرتي تغير وأسرع الشيب إلى رأسي ولحيتي, بالوقت الذي نمت فيه مخالبهم ونبتت أشواك على أجسادهم, فادعيت إني قادم من بلاد الغرب لإجراء عملية جراحية دينية عقائدية لاستئصال اللعنة, اغمي على بعضهم عجبا بما سمعوا واقيمت لي مراسيم الترحيب البهية, غسلوني بزيت منشم كانت رائحته تشبه صديد اللحوم المتعفنة, بدأت الأفكار القاتمة تنجلي من رأسي شيئا فشيء, كأنني غزال بين كائنات في طريقها إلى الإنقراض تنقضي وانسحب إلى زوجتي, والتي اعتبروها بحكمهم بائن مني ..لحظة ونقلب كل شيء تحول إلى أوراق تذرها الرياح, عند استدعاء وسائل الإعلام لتصويري عادت الحكاية القديمة إياها, بعد ان حضر نفس معد البرنامج المهدور على شاشته دمي, ارتسمت على وجهه ابتسامة صفراء حال وقوع بصره علي, غمزني وهو يثبت لاقطة الصوت على قميصي وقال:
– ما ضاع على فقيه مسلك.
– اتقي الله في دمي.
– اطمئن.
– كيف.. والقشة التي قصمت ظهري مصدرها انت.
– بثثت آلاف الافلام حول القصاص من المرتدين، ولم أسجل فلم واحد عن توبة الكافرين.
رميت لاقطة الصوت على الأرض اندهش الجميع ..وَتَلَّني للجبين اغلقت عيني حتى لا أرى السكين!
[email protected]