23 ديسمبر، 2024 4:24 ص

إبليس يحرق الجنة في العراق!!

إبليس يحرق الجنة في العراق!!

يرتد طرف العين حاسرا في فضاءات جنانها، و تغيب الشمس في معارجها حانقه غيرة منها, ومن بجمالها؟، سِحرُ خضرتها وغموض حقيقتها، تجعلك تائها” في دنيا لا تعرف الدهشة, لأنك في أرض العجائب ارض الرافدين, هنا تعانقت الأسطورة والكمال في الانسان, و هنا ابحرت ذاكرة التاريخ في اسفارٌ لا يكفي مداد الماء لتسطيرها, فملاحم أهلها انضجت الرجولة في عقل العرب, وحكمة القرون انبتت الرزانة في حروف سومر, انها اهوار العراق اللانهائية المدى, الغامضة العيون, المحيرة في سكونها ووقارها, ففي مائها امتزجت الدماء بعرق الحضارة, وفي جنات القصب والبردي كتبت اوروك مزامير الشدي, وتلت رفيف اشجارها قصص الحب, ومغامرة الانسان الأولى في البحث عن الخلود, هنا في الجنوب, تتعانق قصص السحر وأساطير الجنيات في خيال البشر فما بين الهة وخرافه, وبين خلود وحرب كانت إنليل وإنكي و مردوخ ونابو وسين و عشتار, وغيرها, كانت تسامر الليل مع العاشقين لأكثر من سبعة الاف سنه, وستبقى قصيدة كالكامش مثل نبؤه سرمديه لا يوقفها جفاف, بيد ظالم ولا دكتاتور مجرم حانق على شعبها ,فهم جميعا” ذهبوا وبقيت الاهوار حيه, وبقيت قصص الحب تتناسل والى الابد.
تمتد الاهوار بين 3 مدن عراقية جنوبيه هي البصرة والناصرية والعمارة بمساحه تفوق 2.3 مليون دونم ، وتشكل حوالي 17% من مساحة العراق, وهي مسطحات مائية يغذيها نهري دجله والفرات العظيمين ,إضافة الى انهار فرعيه صغيره من جبال طوروس وزا كروس الإيرانية, وتتكون من ثلاث مناطق هي هور الحويزة الذي شهد معارك عبثيه لا تحصى خسائرها بين 1979 و 1988 بين ايران والعراق , بالإضافة الى هور الحمّار, كان (العبيد يون) اول من سكن جنوب العراق حيث ازدهرت حضارتهم قبل 5 الاف سنه وأصبحت ثغر الحضارة السومرية لكثرة الموانئ التجارية فيها.
كان لسكانها وبراعتهم في صناعة القوارب وبناء السدود دور كبير حيث يقول (بيلي فريرز) في مذكراته عن سكا ن الأهوار ” من المدهش أن يتسم هؤلاء الأقوام الذين يعيشون في المستنقعات بالقوة والوسامة فمازال سكان الأهوار يتمتعون بالسحنات الدقيقة نفسها التي كان يتمتع بها سكان الأهوار الأوائل ), وقد سبب اكتشاف تراثهم ازمه شديده في معطيات الحضارة الحديثة فيما يخص الدين والرسالات السماوية, حيث كان لقصة الطوفان في ملحمة كالكامش اثرا” بالغا” في التشكيك في الكتب السماوية ومصادر التدين التي تؤكد ان قصة نوح ليست خرافة كتبتها اقوام قديمة لا تعرف الفرق بين الفضيلة والشر.
يسكن المنطقة الان قبائل عربيه معروفه يفوق عدد افرادها المليون شخص، يطلق عليهم اسم المعدان، ولا تختلف حياتهم في نمطها كثيرا” عن البدو الرحل، فحيواناتهم من الجاموس والبقر تلاحق المسطحات المائية وقت الجفاف، اما افرادها فيمتهنون صيد الأسماك وتصديرها للمدن الكبيرة، ومنازلهم تبنى على مرتفعات صغيره من القصب بنفس طريقة بنائها قبل 5000 سنه، تلا حق أهلها سمعة التبعية الإيرانية، حيث وسمهم صدام حسين وأبنائه, بأنهم هنود واصلهم ليس عراقي، وتعاون على ذلك بعض الأقلام المأجورة والسياسيين الوصوليين كما افتى مؤخرا” طه اللهيبي.
وكان الحكم العثماني يشكك بولائهم، فكانت جيوش الاتراك تقترف بالمجازر بحقهم لإرغامهم على طاعة السلطان، ولكن الحقيقة التي ربما لا يعرفها الكثيرين ان سكان الاهوار ساندوا حملة خالد بن الوليد ضد الساسانيين في سنة 634 ميلاديه، وكانت ارضهم ملاذا” لنزوح الالاف بعد الغزو التتري، وجنوا ثمار هذا النبل بالقتل والتشريد، وكانت الطبيعة الجغرافية للأهوار جعلت ارضهم منطلقا” للكثير من الحركات الثورية كالقرامطة والزنج، حتى الزمن الحديث كانت الاهوار موطن الثائرين على الأنظمة الجائرة في العراق.
تعرضت الاهوار الى أسوأ كابوس تاريخي على الاطلاق, عندما امر رئيس النظام السابق بتجفيف الاهوار بدعوى توسيع الأراضي الزراعية, ففي بداية 1991 بدأ المهندسين العراقيين بتحويل مجرى الأنهار, وحفر قنوات مائية تحت مسمى النهر الثالث , بحيث تقطع وصول ماء الرافدين الى هذه الجنة الأرضية تماما”, وكان ما أراد, حيث احرق الجيش ومليشيا حزب البعث ملايين الهكتارات الخضراء, و قاموا بتدمير نظام بيئي قائم منذ ملايين السنين, فتم تجفيف 97% من الاهوار في العقد الأخير من القرن العشرين لتتحول الى صحراء يذرو افنيتها الياس, وجدب الانسان, في ارض ذابت الرحمة في قلوب اهلها, ليزداد جبين العراق الكالح بقعة أخرى تزيد مساحة الجحود ونكران الفضل حتى للأرض التي ارضعتهم واطعمتهم الخبز والمجد.
قدمت منظمة اليونسكو تقريرا” مفصلا” وصفت فيه التحولات الأحيائية، وتدمير النظام البيئي في العراق بأنه يرقى الى جريمة ضد الإنسانية، بعد كشف الابعاد والاثار المناخية لموت الاهوار، حيث احدث الجفاف تحولات غريبه في درجة الحرارة ونسب الرطوبة وتكاثر الطيور ,وظهور كائنات شرسة , وحشرات بمنتهى السمية تقتل الانسان كما في منطقة سيد دخيل.
لربما الحديث لا يتوقف عند جريمة النظام السابق فمازال عطش الاهوار قائما”, ولازال العوق السياسي حاضرا” , ولم يرقى سياسيو الصدفة , والفائزين بجهل الاختيار لشعب لم يعرف طعم الشبع كثيرا” , مازالوا لا يدركون الكارثة وما تفله تركيا في أنظمة السدود على دجله والفرات, إذْ لا تكفيه الادانات والاحتجاج فسياسيو العراق الجشعين لا تكفيهم مليارات السرقات ليقلبوا الدنيا على سياسة تركيا البائسة في تركيع العراق وتحويله الى حديقة خلفيه في الفضاء الأمني التركي, فحجم مأساة العراق ليست في الخدمات التي لن تتحقق وفق الضوابط الباسه الحالية, فانتشار الأوبئة, واستيراد الأطعمة الفاسدة, وتدمير البنيه التحتية للمصانع والمعامل والذي يرافقه الان انهيار كامل في النظام البيئي في العراق , اصبح واضحا” ان الامه تسير الى الهاوية, ولا عزاء للعراقيين!!!.
اذا كان لفلسفة ما ان تكون في شعب، فان احد اعراض كينونتها احتضانها للأرض التي انجبتهم بنفس القدر الذي تحضن فيه العقول الكرامة، وفي وزن الشرف الذي يستر المعايب من الانكشاف، فعندما يحرق الانسان الأرض التي انجبته، ويهين أوراق الشجر , ويكحل افق المدى الأخضر بالسواد, فأنه بهذا يحرق شغاف الكبرياء التي ان زالت كانت عورة الانسان اقل عارا” من انكشاف الانسان نفسه اما التاريخ والحقيقة.

[email protected]