حين تتعدد مسارب الكتابة الشعرية وتصل إلى مديات تعتمد على مرجعيات تؤسس لوشائج قوية مع ضمير الشاعر، يصل الشاعر في هذا المرفأ الشعري، إلى عالم أرحب في الإبداع والتراكم الفكري، تمكّنه من المسك بأدوات الكتابة والتعامل معها على أساس أنها محاريب مقدسة، ليحقق الشاعر لذة التواصل مع الذات الكاتبة بكل اشراقاتها، والقارئ المتطلع لصدق العطاء الشعري الذي يبحث عنه بشغف الراصد للجديد والمبهر، بعيدا عن راهن شعري يعج بالرتابة والطارئ الموغل في السطحية، ومما يزيد الالتباس في المشهد الشعري العراقي تحديدا، والعربي بشكل عام، أن هكذا وضع يجد له أنصارا ومريدين، ليصبح حالة من الغبش الشعري، أو التهويم غير المفهوم، وهو ابتلاء يتناسل بشكل مخيف في العقود الأخيرة، ليظل الأصيل يقاتل بمعية شعراء نذروا مواهبهم لمواجهة هذا المسخ وازاحة المتسلق الذي يبيح لنفسه الخوض في معترك لا دراية له فيه.
حين نطالع ديوان الشاعر إبراهيم الخياط، ونحن مغيضين لما نقرأ هنا وهناك، تعيد قصائده ترتيب ذواتنا المرتبكة، ونلج جمهوريته الشعرية الباذخة، لنكتشف تجربة مغايرة للراهن الشعري، بمعجمية باهرة، وبدفق شعري ولغوي يسمو بنا حيث الفضاءات الفسيحة، من الكلمات والصور والتوظيفات والعودة للتراث لينهل منه بطريقة فاطنة، لا اسفاف ولا تفريط فيها، وكأننا أمام قامة شعرية ينبغي الاقتراب منها بحذر شديد، وكما يقول الناقد المتميز فاضل ثامر في إشارته عن الديوان، بأن (إبراهيم الخياط … شاعر يمتلك صوتا متميزا بين أقرانه، شاعر يذكّرني بالسياب وسعدي يوسف، فهو يمتلك ناصية اللغة ويجعلها تتصدر التجربة الشعرية).
حين يضع الناقد فاضل ثامر، الشاعر إبراهيم الخياط بمصاف شاعرين كبيرين، كالسياب وسعدي يوسف، فإنه على دراية بأنه أمام قامة شعرية، وبموهبة لغوية وخيالات، ومرجعية تراثية كبيرة، نتبين ذلك من النصوص التي يحملها الديوان (جمهورية البرتقال):
إنه
قاب قتلين أو أدنى
فحق عليه القول
بعد أن فرهت أحلامه
ونحت به عن جزيل افتقاره (كاسب كار) ص11
تتصاعد اللغة الشعرية بتناسق مبهر مع الصور والانتقالات وبفضاءات غنّاء، وكأننا حقا نجول على أرض جمهورية الشاعر الفسيحة والوارفة الظلال، بعبق مندّى برائحة الطل الذي يستجمع بهاءه من برتقاله الشهي، طعما وعافية وألقا.
في هذا المقطع الشعري الرافل بالمعنى، تتضح بشكل جلي نوايا الشاعر في البحث عن قارئ يقاسمه هذا الطبق الشعري الموضوع على بساط غابة برتقاله الشعرية العاج بالغرابة والتحدي، وكأني حين أقرأ هذا المقطع، أنني بإزاء مقامة خياطية أسوة بمقامة حريرية، وهي عبارة عن منمنمة مصاغة بحرفية العارف من أدواته، والغارف من تراثه، في نسيج شعري متراص، شكلا ومعنى.
ترى ـ أمن الضجة كل ما بي؟
فعند التقاء المساءات
صامتا أفردت بعضي
ورتّقت بعضي بالجلنار (الضجة الصديقة) ص15
هو ذات الحدس الشعري حين يتحول بصدر الشاعر ذات السؤال الوجودي الكبير، ليتوزع على تفاصيل ذاته الكسيرة والمأخوذة بالمتاهات والضياع، ليحتكم على الصمت المريب، ينسج لجسده المنهك، إضاءات بغرائبية المنتكس والحائر من وجوده القلق:
أحرقت دمعي
(وهل كان دمعي غير ماء؟) (الضجة الصديقة) ص15
يا له من ضياع وانكسار ومحنة، حين تتحول حياة الشاعر إلى مجرد ظلال تغيب، ما أن تغفو الشمس في مداراتها ويهيم هو بدمعه المشتعل بمائه.
الشاعر أول من يضحي وآخر من ينال العذاب، حين يوزع جسده شلوا شلوا وهو مكره، إلى مدارات من الفرح الطفولي الآسر، بلا مناكفات مع الآخرين، قد تفقده نقاءه الانساني، وشاعرنا ابراهيم الخياط، يتيه في كل هذه المدارات، تحت مسمى شاعر يطلق قلبه فراشات، سعيا لنيل لحظات عشق، شبيه بعشق البرتقال لضوعه، في نضارته وطعمه ورائحته الفواحة:
شاعرا أطلقت قلبي
وسميت عشقي برتقالا
أسكنت حرفي
حيث اختلاف الدروب (الضجة الصديقة) ص15/16
أليس هذا انحيازا واضحا للمكان الأول الذي نشأ وترعرع الشاعر فيه؟ وهو غض، هشيش، جسدا وتكوينا؟ ليجد نفسه من حيث لا يدري، مطوقا بهذا الأريج البرتقالي، وهذا لعمري منتهى الوفاء للبذرة الأولى، التي توسعت في رئة الشاعر، ليقوده قلبه المتيم، لبهاء البدايات، مأسورا بها رغم عوادي زمن لا يرحم، وهو ما لاقاه الشاعر من عسف وقهر، ليظل بذات الوشيجة الوفية لأمكنة البوح الأولى، وهو طفل هشيش كهشاشة الطير الوديع.
أنني أرى أن الشاعر ابراهيم الخياط وعاء شعري ينضح رذاذا لغويا يتناثر على متون المكان واللحظة والماضي من زمن مأسوف عليه، راهنا وماض، وآخر قادم بسوداوية لا تسر صديقا ولا حبيبا.
وهذه مأساة توحّد العراقيين جميعا، فكم هي كبيرة وفاجعة محنة الشاعر إبراهيم الخياط، المنحاز بكل كيانه لمجتمع يئن تحت وطأة الخراب، ولا من سبيل للفكاك وهم يخرجون من محرقة ليتوجهون إلى أخرى، وهو الأكثر احساسا بحجم المرارة والضياع وفقدان الأمل:
بين الأسى
واستدارة النهر الذبيح
كانت خطاي
تنبئ بالجفاف
وتقرأ سورة الماء المدمى (جمهورية البرتقال) ص25
لا أظن أن شعبا بكل مكوناته عانى مثلما العراقيون بكل شرائحهم، وها هو شاعرنا الخياط بهذا الايلام وهذه اللغة الذبيحة:
أسى/ ذبيح/ جفاف/ مدمى/
مفردات طاغية على مجمل النصوص، وهي تشي بحجم العذابات لشعب هذه الأرض، ليكون الشاعر لسان حال المعذبين، وليست له القدرة لأن يمسح دموع الأطفال، ويخفف من أنين الثكالى. لأنه ببساطة أمام خطوط حمراء وليس لديه غير التوجع والانكفاء.
انتكس القلب مرة
وانتكس النهر مرات
فلم يبق لقلبي سوى ظل أنثى
ولم يبق لنهرنا الشقي
سوى حثالة الأهل المتسربين (جمهورية البرتقال) ص25
القلب هو النهر والنهر هو القلب، وهذه المعادلة قد تحيل الشاعر والقارئ معا إلى ركام من المواجد والعذابات، لأن الشاعر وفي ظل هذا الحصار الرهيب، يتوق لدفء الأنثى، فما أجمل هذه الصورة الشعرية البليغة المعنى، لأن الشاعر حين بلغ مرحلة اليأس المطبق، ظل قلبه ينبض عشقا لظل أنثى، وأية أنثى تلك التي تنعش لحظات الشاعر وتبقي خيوطا من الأمل، هي الوحيدة التي يظل متشبثا بها، لئلا يضيع كل شئ وتصفعه آثام السئين، ليتحول إلى حالة محو لا خلاص منها، فهو ينقلنا من محنة إلى أخرى، ونحن معه في ذات المركب بكوابحه التي تنزع القلوب وتغم النفس:
انتكاسة قلب/ وانتكاسات نهر/ وظل أنثي، قد يفي بنوازع الشاعر الانسانية/ وما تبقى للنهر، حثالة من الأهل، وأي أهل؟ للقارئ الكلمة الفصل، أليس هذه مشاكسة للقارئ من شاعر يفنّن الكلمة، ليجعلها حمالة أوجه.
للشاعر الخياط معايير صارمة في صياغة الجملة الشعرية، بثوابت لغوية ليست بلا روح، بل تعج بالحركة والصور بإضاءات، مرة تخبو في ظلال الكلمة، ومرة تنير لحظة القراءة بسطوع باهر، من هنا يأتي المنهل الشعري البيّن، ليسموا بلحظات قراءة فاتنة، حتى وإن لم تكن للقارئ سابق معرفة بمنتج النص، ليصبح النص بوابة اللقاء ونافذة الأمل، وتحصل المصالحة مع الذات القارئة.
ساحت بحربين زئبقة أيامي
وإذ ينام الوطن
كان سريري الموحش ملقيا
أيكي عليه نثيثا (مدمي الشباب) ص35
يا لها من مفردات تدمي القلب، حين يكون مصير البشر مثلما لعبة بيد طفل، لا يتحكم بها ولا بمصيرها، لتكون عرضة للعبث الطفولي، وهكذا هو مصير الشاعر، حين يكون لسان حال المنتكسين الموزعين بين رماد الحروب ونزيف الخراب، ليكون البارود وحده من يترصده ولا سبيل عنده غير البكاء.
عشرون عاما وأنا أبكي
عشرون عاما وأنا أغزل رئة ثالثة
فالأولى للقطران
والثانية للشهيق
وهذي الشفيفة للبارود الجميل (مدمى الشباب) ص35
حتى القتل والحروب والرصاص والبارود، عادت لها أوصاف خارجة عن المألوف، فمتى كان القتل رحمة؟ والرصاص موسيقى؟ والبارود جميلا؟ هذا هو قدر العراقيين، إذ عادوا بلا مراسم، ولا مرايا، ولا عشق شفيف للحياة، وكل ما يحتكمون عليه، هو هذا الواقع الدامي، والنزيف الذي لا يتوقف. إزاء ذلك يبتكر الشاعر رئة ثالثة بعد أن فقد القدرة في التحكم في رئتيه، لتكون الثالثة شفيفة، فيملأها برائحة البارود، وهو الهواء الذي يستنشقه أبناء هذا الوطن الذبيح.
إنه انحياز انساني وأخلاقي، هذا الذي يبوح به الشاعر، ويجسّده فعلا وقولا، كي يشارك أبناء جلدته قدرهم الذي عاد بأمرة المخبولين وغير الأسوياء من البشر العتاة.
عيناك خردلتان
والحرائق طائرات
فهل جادك الغيث
عندما الموت همى (واحدة لا تكفي) ص41
هذا التوظيف المستوحى من شاعرين كبيرين، كالسياب ولسان الدين بن الخطيب، هو مقاربة شعرية حافلة بالمعاني لإسقاطها على واقع الشاعر والأذى الذي يكابده، فيتحول غزل السياب لأرض وماء وتفاصيل وطن، إلى حصار قاتل ولعنة تعج بالأسى، فكيف لعينين خردلتين تعودان إلى حرائق طائرات؟
أما لدى لسان الدين بن الخطيب، فيتحول رذاذ الحياة عند الشاعر الخياط إلى موت يسقط كما الحمم القاتلة، بدل أن يكون مصدر رخاء يعم الأرض والناس.
في نادي الببغاوات استراحت
كلماتي قليلا ثم اعترضت كاحتجاج
الديكة على ليل الرفيق… (نادي الببغاوات) ص57
هذا التداخل المرغوب في الشعر، بمثابة كولاج شعري مرتب التوظيف بألوان لغوية متناسقة: ببغاوات/ ديكة/ فجر دستوري/ قش باذخ/ الوسن.
إن القارئ النبه يدرك الربط الفاطن بين كل هذه الكلمات، لتشكل لوحة معبرة، بستار مخملي يخفي الكثير من النبض الخفيض، بغرائبية التفجّر في لحظات باذخة، وكأني بالشاعر تسكنه تفاصيل أمكنة قد لا نحسها كما هو، وهو كالطفل الغض الذي لا يريد أن ينسى غير المألوف في مرحلة طفولته الآسرة.
في نصه زينب يقول الشاعر:
ولا تدري
لمن تشي
بالزغاريد المحبوسة في حناجر الثكنات
وهي ترى
الشارع الممتد
من أقصى الضاد إلى أقصاه
ضاجا على الاسفلت الأخرس
كخشب الكراسي العربية (زينب) ص64
لهذا النص سطوة خاصة ونكهة متفردة، فالزغردة محبوسة في حناجر الثكنات، فلا هي تعبير عن فرح الانتصار، ولا هي خيبة الهزيمة، إنما هما الاثنان معا، كمن تريد أن تعلن عن مسرتها وهي تبكي، لأن شارع الضاد (العربي) يضج بالصمت المريب على اسفلته الأخرس.
يظل الحنين في وجدان الشاعر للبدايات الأولى، هاجسه الذي يلازمه في حله وترحاله، لأمكنة وذكريات وبدايات وحراك طفولي لصيق بحياة الشاعر الوفي لنشوة المراحل الأولى في حياته، والوشائج التي ما بهتت يوما بداخله، لتنتفض حنينا ووجدا وإحساسا باليتم والضياع احيانا لتلك المحطات، إنها مدينته بعقوبة، محج الشاعر حتى وإن بعد عنها جسدا، تبقى تستوطنه وجدا دائم الحنين.
وقفت على بابها الحميم، لأقيس ارتفاع
الدمع في جزرة نهرها المعلول فلطالما
شيعتني هذه الثكلى الطروب ـ التي أسميتها
مدينتي وسمتني جوابّها المقيم ـ شيعتني فوق مشابك
عرباتها الأجيرة نعشا مزدهرا بالألوان
المستطيلبة (بعقوبة) ص127
تسيح القصيدة الخياطية على سطح هلامي شفيف يستعصي على القارئ الامساك بتلابيبها أحيانا، فنوايا الشاعر تجعل من القصيدة قنطرة تؤسس لوشائج يصعب التفريط بها والعبور معها للضفة الأخرى، سيما مع قارئ يبحث عن فضاءات أرحب، تعج بالحركة والحياة وتتراقص مفرداتها وكأنها نجوم تتلألأ، لتضيء لحظات من المؤانسة لامتلاك ناصية الذات المنفلتة عن مساراراتها الباحثة عن الجديد والممتع.
على قلوبهم أقفالها
وعلى قلبك الرصاص
فهذا الخزون الدقاق
ابتلع من المسكوت عنه آبارا (على حائط حنا السكران) ص133
إنه مخزون لغوي يشي بقدرة الشاعر على انتاج نص بهذه المتانة اللغوية، برحلة اسرائية، تحيلك إلى زمن الشعر البهي، والاحساس بلذة القراءة وسطوة الشاعر وتحديه، فتعتري العلاقة بين الشاعر وقارئه دهشة قد تتشابك الاحتمالات فيها لفك طلاسمها؟
يقول الشاعر:
شريكين كنا
وكأن كل البرايا ضداد
شريكين بلا ليل
فيغمرنا من فجر الحروب
سواد
شريكين ولا منية لنا
سوى دار (تفعيلة الخذلان) ص141
الاحساس بالمرارة والضياع والموت المؤجل مفردات لقاموس حياة العراقيين، بعد أن انتزع منهم الطغاة نوازع الفرح والمسرات والحياة البعيدة عن الخوف، حتى استكثر عليهم القتلة أن يحتكموا على ملاذ يأويهم من لفحة القهر اليومي.
وحتى وهو في هذه الغمة العالقة في تلابيب الوجود الانساني، ينزع الشاعر إبراهيم الخياط للبحث عن دفء أنثاه، قد لا يتحقق في هذا الكساد العاطفي الذي أخذ يزحف لحياة الناس، لأنه، كما أبناء جلدته، مطوق بلعنة الحروب، وصيغ الفتك التي ما مرت على بشر غير العراقيين.
فلا فائدة من حياة عند الشاعر، اذا لم تأتلق فيها امرأة وتشعلها أنثى كما يرسمها هو في مخيلته وأحاسيسه بغليانها الدائم.
يعز علينا أن نغادر هذا البذخ الشعري لجمهورية الشاعر ابراهيم الخياط البرتقالية الأريج والطعم، علنا نلتقي قريبا في ضيافة منجز جديد للشاعر البهي.