18 ديسمبر، 2024 7:45 م

أُمّ المشاكل في العراق

أُمّ المشاكل في العراق

لدينا، في العراق، مشكلة كبيرة ومركّبة اسمها: تشريع القوانين. ما مِن مرّة عُرض في مجلس النواب مشروع قانون أو نوقش في المجلس مشروع قانون أو أجاز المجلس مشروع قانون بعد المناقشة، إلّا وثارت حوله زوبعة من الاعتراضات والاحتجاجات والمطالبات بالتعديل والتبديل.
في الغالب، كان لتلك الزوابع ما يسوّغها. البعض من هذه المشاريع أو القوانين ناقص، والبعض الآخر لا يعالج على نحو جدّي المشكلات المقصود من القانون وضع الحلول لها، والبعض الثالث يتضمن أحكاماً متصادمة ومتعارضة مع أحكام الدستور وقوانين أخرى سارية المفعول ومع مبادئ وأحكام الشرائع الدولية المُتبنّاة من الدولة العراقية التي هي بقوّة القانون الوطني أو أقوى.
المشكلة كبيرة ومركّبة، ونقطة البداية فيها أنه في سنة من سنوات اضطرام الصراع السياسي وانحرافه عن جادّة الصواب، خضعت المحكمة الاتحادية لضغط رئيس الوزراء الماسك بسلطة السلاح والمال، فجرّدت مجلس النواب الذي هو السلطة التشريعية (الانتخابات التي تجرى له تسمى الانتخابات التشريعية) من حقّ تشريع القوانين ،ناقلةً هذا الحق إلى السلطة التنفيذية التي وظيفتها تنفيذ القوانين (الحكومة ورئاسة الجمهورية، وفي الواقع العملي الحكومة وحدها وغالباً ديوان رئيس الحكومة حصراً)!
العنصر الآخر في المشكلة أنّ أحداً منّا نحن عامّة الناس لا يعرف مَنْ هي الجهة التي تكلّفها الحكومة عادة بكتابة مشاريع القوانين، ومن المشكوك به، في ضوء التجربة، أنها جهة أو جهات رصينة ذات اختصاص بدليل النواقص والمتناقضات التي تنطوي عليها مشاريع القوانين. أمّا مجلس شورى الدولة، وهو مؤسسة تبدو مغرقة في بيروقراطيّتها وفي انقطاع صلتها بالواقع، غالباً ما يقتصر دوره على بعض “التضبيطات” الشكليّة، مبتعداً عن الاقتراب من الجوهر، والدليل أن مشاريع القوانين المارّة بالمجلس غالباً ما تكون بعض موادها متعارضة مع أحكام الدستور والشرائع الدولية، والمفروض أن يلتفت مجلس شورى الدولة إلى هذه الناحية باهتمام.
والعقدة الكبيرة في عملية تشريع القوانين هي تلك الكائنة داخل مجلس النواب نفسه.. المجلس لا يُبادر إلى طرح مشاريع القوانين على الرأي العام لمناقشتها. أكثر من هذا إنّ أعضاء المجلس الذين هم الهيئة التشريعية العليا في البلاد لا يقرّرون هم صلاحية القوانين المطروحة عليهم أو عدم صلاحيتها .. قيادات القوى والاحزاب التي جاءت بهم الى المجلس هي صاحبة القرار.. أي أنّ عملية التشريع محصورة بعدد من الاشخاص يقلّ عن 20، هم زعماء هذه الأحزاب والقوى أو رؤساء الكتل في البرلمان. لهذا تجد أنّ الكثير من النوّاب يجيزون قوانين أو يصوّتون ضدها من دون قراءتها.
حتى عندما تُطرح على مجلس النواب مشاريع قوانين يقابلها الرأي العام بمعارضة قوية وتضطر اللجان المختصّة إلى تنظيم جلسات استماع داخل المجلس لمعرفة آراء أهل الاختصاص والخبرة، فغالباً ما لا يؤخذ بالآراء المطروحة .. مشروع قانون حرية التعبير والتظاهر أحدث أُنموذج لهذا، فمشروع القانون الذي كان المجلس سيُجيزه يوم الإثنين الماضي لم يتضمّن التعديلات التي اتّفق عليها أهل الاختصاص والخبرة مع لجنتي حقوق الإنسان والإعلام والثقافة بعد جلستي استماع عُقدتا في العامين الماضيين، بل إنّ المشروع الذي يمس واحدة من أكثر الحريات والحقوق أهمية، تضمّن هذه المرّة تعديلات عجيبة غريبة وخارجة على المألوف قيل إنها مُقترحة من لجنة الأوقاف والشؤون الدينية، ولم يطّلع عليها أعضاء لجنتي حقوق الإنسان والثقافة والإعلام بشهادة بعض هؤلاء الأعضاء.
الإصلاح يبدأ بالتشريع .. والتشريع عندنا مشكلة كبيرة ومركّبة.. هي أمّ المشاكل .. لكن هل بقي
نقلا عن المدى