يحتكم الإنسان بعقله -إن كان سويا- في حال الدنيا وتحولاتها، في إقبالها وإدبارها.. وله في تقلباتها خير واعظ -إن كان يتعظ- والموت أول الواعظين وأبلغهم لمن يعتبر به، وفي شدائد الدنيا خير معلم وناصح، يقول شاعر:
جزى الله الشدائد كل خير
ولو أنها نغصتني بريقي
وماشكري لها إلا لأنها
عرفتني عدوي من صديقي
لاأظن العراق قد مر في عصره الحديث بأقسى مما يمر به اليوم، وأسوأ مما آلت اليه البلاد ومصائر ملايين العباد، وقطعا هو كله من صنع الإنسان وأي إنسان..؟ هو الإنسان في الداخل قبل الإنسان في الخارج، إذ مع المكائد والمؤامرات التي تحاك على وادي الرافدين منذ الأزل، يصنعها أعداء له من خارج حدوده، هناك من ينخر في نسيجه من داخله وهم بعض أهله ومن حبال نسيجه المتراص. ولو لم يهيئ من في الداخل الأرض الخصبة والحضن الدافئ، لما قدمت اليه من مشارق الأرض ومغاربها مخلوقات تعتاش على موته، وتقيم أعراسها على مآتمه، وتنصب أفراحها على أتراحه، ولنا في تاريخنا القديم والمعاصر والحديث أمثلة كثيرة.
أما الحائكون من خلف الحدود فالحديث عنهم يطول، وهم على أشكال عديدة.. وتدفعهم غايات متعددة، يتشعب الحديث عنهم وعنها في مقامي هذا، فيضيق بكمها وحجمها وتعدادها، فسأقتصر على ذكر شكل واحد منهم وغاية واحدة، ذاك الشكل هو آل سعود.. وتلك الغاية هي آل البيت (عليهم السلام).
آل سعود.. عائلة قطنت شبه الجزيرة العربية، وتملّك شيوخها أراضي شاسعة من نجد والحجاز، فصارت الأرض وماتحمله وما تبطنه تحت تصرفهم، وريعها في جيوبهم، ونشأت المملكة العربية السعودية على هذا الأساس، ولاريب بهذا كله. إلا أن ولادة الدعوة الوهابية بزعامة مؤسسها محمد بن عبد الوهاب في أواسط القرن الثامن عشر وتوغلها في امر المملكة، فسح المجال لشيوخها بالتدخل بسياسات الدولة الداخلية، وعلاقاتها مع الدول الإقليمية ولاسيما الدولة المتاخمة لها من الشمال وهي العراق، فكان له أثر بالغ في كثير مما يحدث في المنطقة. فمنذ أن تحالف أبناء مؤسس الدعوة الوهابية محمد بن عبد الوهاب مع آل سعود، بدأت غاراتهم المتتالية على العراق، وبقية بقاع الجزيرة العربية. وباستقراء سريع لأفعال الوهابيين بمساندة آل سعود يطلعنا التاريخ على كثير وكثير جدا منها. إذ أغاروا على الكويت سنة 1788 واحتلوها، ثم واصلوا تقدمهم إلى الشمال، وكانوا يريدون الاستيلاء على كربلاء، وعلى قبر الحسين عليه السلام لهدمه ومنع الزيارة اليه. ثم في نيسان سنة 1803 شنّوا هجوماً على مكة واحتلوها، وفي ربيع سنة 1804 سقطت المدينة المنورة في أيديهم، فخربوا القباب الضخمة التي تظلّل قبر الرسول، وجرّدوها من جميع النفائس.
إن التاريخ الأسود الذي رافق الدعوة الوهابية منذ نشأتها، يرافق كذلك كل من احتضنها ووفر لها الأجواء المناسبة لتترعرع في أرضه، وتلد له شيوخا ومفتين ينادون -من ضمن ماينادون- بالعداء لآل بيت النبوة الأطهار ومواليهم وأتباعهم، وهذا ما ظهر علانية بعد عام 2003 بعد انقشاع نظام صدام، فاستحالت أرض العراق الى ساحة يطبق فيها أحفاد بن عبد الوهاب أفكارهم الموبوءة، بحق شيعة أهل البيت عليهم السلام، وبطبيعة الحال فاللوم كل اللوم يقع على حكام آل سعود، الممسكين بقبضة نجد والحجاز، إذ كان حريا بهم تحكيم العقل دون الأحقاد المتوارثة، فتقلبات الدهر دائرة، وسياتي اليوم الذي يتمرد فيه التلميذ على معلمه، وعليهم الاتعاظ قبل فوات الآوان، بالحد من الشحن الطائفي وإيقاف تغذية المد الوهابي المتجذر في أرضهم، إن كانوا يدعون الإسلام الحق.
إن لنا بحديث النبي (ص): “اذكروا محاسن موتاكم”. أسوة حسنة، ولكن..! ماذا أقول في وفاة سعود الفيصل وزير خارجية دولة الإرهاب والتحريض الطائفي والتكفير، وأية حسنة أذكر لموتى آل سعود، وقد ملأت سيئاتهم ماضي العراق وحاضره.