أيهما أقوى الخوف أم المحبة؟ تعلَّم من ميكيافيللي وموباسان

أيهما أقوى الخوف أم المحبة؟ تعلَّم من ميكيافيللي وموباسان

من الشخصيات التي لا تزال محور جدل واسع منذ القرن الخامس عشر، وحتى الوقت الراهن، شخصية رجل السياسة “نيكولو مكيافيللي” Niccolo Machiavelli (1469-1527) الذي احتل مكانة سياسية رفيعة في فلورنسا إبَّان حكم عائلة “ميديتشي” Midici. ولا يزال، أيضًا، كتابه الشهير “الأمير” The Prince، الذي قدمه هدية لنفس الرجل الذي أمر بعزله من منصبه وتعذيبه، ثم نفيه إلى الريف، يُنظر إليه وكأنه أحد الكتب الواجب تحريمها وتجريمها. ولقد بلغ الازدراء منه مبلغه لدرجة جعلت الباحث الأمريكي “ليو شتراوس” Leo Strauss (1899-1973)، المتخصص في علم الفلسفة السياسية، أن يلقِّب “مكيافيللي” ب”مُعلِّم الشرور”، وهو بالفعل أصاب في وصفه؛ فمخطوطة “مكيافيللي”، التي قدَّمها هدية للحاكم، صارت مُعلِّمًا فريدًا ومرشدًا لجميع الأفراد والأسر التي حكمت فلورنسا من بعده، بل وانتشرت مفاهيمه عالميًا لتخلق عالمًا مخيفًا من الانتهازيين الذين نجحوا في تجريد قلوبهم من الرحمة والعدل. وفي العصر الحديث، لا يتواتر على الألسنة إلَّا قولًا واحدًا أطلقه “مكيافيللي”، وهو “الغاية تبرر الوسيلة”، دون معرفة سبب قوله، أو حتى معرفة أقوال أخرى له.
وبالتنقيب في سيرة “مكيافيللي” الأولى، تبيَّن أنه عاصر الصراعات السياسية واكتوى بنارها، وصعوده للسُّلطة تلى مشاهدته لرئيس الوزراء السابق له، والذي كان أحد رجال الدين، وهو يتم شنقه بدم بارد. ولمَّا اعتلى “مكيافيللي” السُّلطة، لم يجد السكينة، وفترة تمكُّنه من منصبه لم تدم طويلًا، وسرعان ما وجد نفسه سجينًا، ويتم تعذيبه بأبشع الأساليب. وعندما فرغوا منه، تم نفيه إلى الريف، كي يمضى ما تبقَّى له من حياته في مكان يحد ليس فقط من صلاحياته، بل قد يجرِّده من عقله، ويغرقه في التفكير فيما تعرَّض له من قهر.
لكن شخصية “مكيافيللي”، التي يطلق عليها في الوقت الحالي شخصية صلبة وينصح خبراء تنمية الذَّات وعلماء النفس أن يغرسها الفرد بداخله، آبت الهزيمة، وباتت تفكِّر في الخروج من محنتها واستعادة مكاسبها بالحيلة التي يتقنها؛ ألا وهي العقل الرَّاجح والتفكير السليم. وبهذه الطريقة، يكون قد طبَّق أحد أهم مبادئه على نفسه، والتي يقول فيها “بينما الأسد لا يستطيع حماية نفسه من شرك الصيَّاد، لا يستطيع الثعلب أن يدافع عن نفسه من الذئاب. ولهذا، يجب على المرء أن يصير ثعلبًا لتبيُّن الفخاخ، وأسدًا كي يُخيف الذِّئاب.” وبنفس الأسلوب، استعاد “مكيافيللي” مكانته الاجتماعية ومنصبًا غير محدود الصلاحيات، أضف إلى هذا، حظوة عظيمة لدى نفس الشخص الذي ظلمه؛ نظير إهداؤه بضع من الأوراق التي عند تنفيذ ما ورد بها من وصايا، سوف يتم الحفاظ على مملكته وتحصينها.
وكأي صيَّاد يُلقي بشباكه حتى يحصل على صيد ثمين، كان يعلم “مكيافيللي” أن دوره لن ينتهي عند هذا الحد؛ فالمخطوطة يجب أن يكون هناك من يفسِّرها، ولن يوجد أفضل من تفسير من سطرها. ومن ثمَّ، أصبح “مكيافيللي” أسدًا وثعلبًا، وحمى نفسه من الذئاب المتناحرة على السُّلطة.
لكن يجب ملاحظة أن “مكيافيللي” ذاته ربما كان غير راضيًا، وأنَّ ما يصيغه من قوانين وما يظهره من دهاء هو وسيلته الوحيدة لإخفاء طبيعته التى لربما كانت يومًا الطيبة والأخلاق الحميدة شيمتها؛ والدليل على هذا أنه خصص فصلًا كاملًا تحت عنوان “الوزراء” لأستاذه الوزير الذي تم شنقه. وعلى هذا الأساس، وردت مقولته التي يؤكِّد فيها: “الجميع يرى ظاهرك، لكن هناك القليل ممن يعلمون ما تبطن”. وتلك المقولة العبقرية والتي يبغي بها النصح، كانت أيضًا من أوائل الدروس التي تعلَّمها بعد الجور عليه.
لقد استطاع “مكيافيللي” استغلال قوته الناعمة؛ ألا وهي عقله، كي يضع نفسه على الطريق السريع للنجاح المحقق، أي أنه طبق مبدأ: “لا تحاول أبدًا إحراز الفوز بالقوَّة، ما دمت قادرًا على الفوز باستخدام الخداع.” وكانت خديعته هي تلخيص عصاره تجاربه وإهدائها لعدوُّه؛ لأن أمله الوحيد هو استرجاع مكانته التي انتزعت منه عنوة. ولم يكن “مكيافيللي” ساذجًا ليتأكَّد أن خطته لسوف يُكتب لها حتمًا النجاح، لأنه أيضًا توقَّع الفشل، ولربما كان لديه أيضًا خططًا بديلة، لا تقل خطرًا عن سابقتها، وكأنه كان يجسِّد مبدأه القائل: “لا يمكن أبدًا إنجاز الأعمال العظيمة دون ركوب المخاطر”.
وأخيرًا، يمكن القول أن اختلاط “مكيافيللي” بعالم الساسة القذر منذ المراحل الأولى من حياته، والذي فتحه على عوالم أخرى لساسة وأفراد عاديين ينتمون لدول وحضارات مختلفة هو الذي صنع منه محلِّلا نفسيًا ماهرًا فهم النفس البشرية وتقلُّباتها. وبناء على ذلك، صارت مخطوطته صالحة لجميع العصور والأزمنة؛ لأنها لا تمس عصر أو ظروف أو طبقة عينها، بل النفس البشرية ذاتها، بكل تعقيداتها.
ويعد الكاتب الفرنسي “جي دو موباسان” Guy de Maupassant (1850-1893) واحدًا من أبرز كتَّاب القرن التاسع عشر في فرنسا، الذين عصفوا الساحة الأدبية بصدق أعمالهم التي تعبِّر عما يجول في المجتمع الفرنسي بوجه عام، والنفس البشرية بوجه خاص، من أحاسيس وشرور وتحوُّلات بدت لجميع قرائه مرعبة؛ لأن كتابته شديدة الواقعية وتؤثر التحليل النفسي العميق مما يجعلها تغرس أنيابها في واقع فرنسي ظاهره الرقي، وباطنه فساد مُثير للإزدراء. ويكفي القول أنه في نهاية القرن التاسع عشر تحوَّلت فرنسا من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، لكن “جي دو موباسان” في قصصه القصيرة، التي يمزج فيها السخرية بالمزاح، يطغى التشاؤم الذي مبعثه أن نفس هؤلاء الأفراد الذين ثاروا على الحكم الملكي، يتوقون إلى نفس حياة الترف واللهو التي كان يعيشها النبلاء الذين ثاروا عليهم، وكأنه نذيرًا لما تحدَّث عنه الكاتب الثوري “فرانتز فانون” Franz Fanon (1925-1961) في خمسينات القرن الماضي، أو كُتَّاب تيار ما بعد الكولونيالية Post-Colonialism في تسعينات القرن الماضي. والأكثر من هذا، أن “موباسان” تحدَّث عن القضايا النسوية بروح تضاهي ما ينشره الكتاب النسويين في الألفية الثالثة.
ومن أهم أعمال “موباسان”، التي وضعته على قائمة كبار الكتَّاب والتي أظهرت حرفته الأدبية وعمق أفكاره، قصة “كُرة الشحم” Boule de Suif والتي كانت كل كلمة فيها بمثابة خنجرًا يوجهه لجميع مُدعي الفضيلة والثورية؛ حيث أنه جعل من قصته الساخرة الحزينة مرآة تعكس زيف المبادئ واستغلال الضعفاء والمخلصسن من أجل تحقيق مصالح شخصية دنيئة.
وترسم القصة رحلة لعشرة أشخاص، بعضهم من التجَّار الأثرياء مع زوجاتهم، والمناضلين، وكذلك ثلاث من الراهبات، ويشارك كل هؤلاء في نفس الحافلة عاهرة سمينة الجسد، فشبهها ركاب الحافلة ب”كرة من الشحم”. واجتمعت تلك الأطياف المختلفة على إزدراء البغي التي تركب الحافلة بكل فخر وتفعمها الروح الطيبة وتقابل الإساءة بالحسنة. أضف إلى هذا، فهي ليست عبدة للشهوة أو المال، فهي بكل إباء ترفض جميع محاولات الضابط البروسي (الألماني) في التقرُّب إليها، وتسافر رحلتها لا ينقصها شيئًا؛ فهي الوحيدة التي أعدَّت للرحلة صندوقًا من الطعام، في حين نسى الآخرين إحضار زادًا لهم. لكنها لم تكن أنانية، وشاركتهم طعامها بكل ود، وهم في المقابل أخذوا الطعام، ولم يشكرونها، وكأن لسان حالهم يقول أن صنيعها تجاههم لا يلزمهم أن يردوا المعروف. وشاركهم في تلك الأفكار الشيطانية وعاصفة الازدراء الراهبات اللائي من المفروض أن يكن رمزًا للود والتسامح.
وفي حين وضع الرجال زوجاتهم في نهاية الحافلة وكأنهن من ضمن حقائب السفر، كانت تظهر “إليزابيث” أو “كرة الشحم” استقلالية تامة وقدرة على المواجهة واتخاذ القرار. وكما تُظهر سطور القصة، نقطة ضعف “إليزابيث” رغبتها في الاندماج في المجتمع والعيش كأي سيدة محترمة؛ فهي ذات خلق ومبادئ، وفيما يبدو أن الظروف أجبرتها على أن تمتهن بيع جسدها؛ لأنها لم تجد من يرعاها ويمد لها يد العون كي يساعدها على كسب قوتها. ولهذا، تمارس البغاء كي تسد حاجتها، لا أكثر ولا أقل.
وتأتي المعضلة الكبرى عندما يحتجز الضابط البروسي ركَّاب الحافلة ويمنعهم من التحرُّك والحصول على الطعام، إذا لم يساعدونه في الحصول على “إليزابيث” التي ترفضه. فما كان من الجميع إلَّا وأن ضغطوا عليها وضحوا بكرامتها من أجل مواصلة السير والحصول على طعام يكفي لسد جوعهم الذي لا ينتهي.
وتحت الضغط والتحلِّي بالفضيلة والهروع لمساندة الغير بكل ما تستطيع، تنصاع “إليزابيث” رغمًا عنها لرغبتهم لنجدتهم من الجوع، لكنها لم تفطن أن جميع هؤلاء الرجال لم يحركوا ساكنا في الدفاع عنها لردع الضابط النهم.
وبينما يفترس الضابط ضحيته، كان الجميع يأكل ويمرح، وكأنهم يشاركونه في انتهاك عرضها وأكل شرفها وأخلاقها. وبعد أن انتهى الضابط في نفس الوقت الذي انتهت فيه المأدبة، آب الركاب إلى سلوكهم الذي يزدري تلك المسكينة، والتي حاليًا صارت تطأطأ رأسها قهرًا وتبكي بحرقة، بينما لا يشفق عليها أحد. وعلى صوت بكائها، يصفِّر الرَّاكب المناضل بالنشيد الوطني الذي يشدد على كلمات العدالة والحرية والمساواة، شعارات تسمعها “إليزابيث” فيزداد بكائها؛ لأنها كانت الوحيدة التي آمنت بها وسط مجتمع لا يؤمن إلَّا بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”.
تشاؤمية “موباسان” تؤكد أنه لا مكان للطيبين في جميع الأزمنة، وتحليل القصة يستحضر روح “مكيافيللي” وهو ينصح الطيبين. فلو كانت “إليزابيث” استمعت وطبقت نصائحه، لكانت هي من تتحكَّم في جميع ركَّاب الحافلة ولكانوا تملقوها لخطب ودها، بما في ذلك الضابط البروسي. وكما يقول “مكيافيللي” : “من الأفضل أن يخافك الجميع، على أن يحبونك”، وكأنه يقول أن العواطف سريعة التقلُّب ولا مكان لها بين البشر، كما هو الحال بالنسبة للطيبين.