19 ديسمبر، 2024 4:39 ص

أيها العِراقيون.. إن أعدتم الإعتِبار لمِلوكِكُم فحينها سَتعيدون الإعتبار لأنفسِكم

أيها العِراقيون.. إن أعدتم الإعتِبار لمِلوكِكُم فحينها سَتعيدون الإعتبار لأنفسِكم

غالباً ما يَأتي رَد الإعتِبار مُتأخراً للشَخصِيّات التأريخية التي تتعَرّض للحَيف والظُلم، لكنه أحياناً لا يَأتي مُطلقا وهُنا تكمُن المأساة. فأن يأتي رَد الإعتِبار مُتأخِراً أمر مُؤسِف لكنه نِصفُ العَمى، أما أن لا يَأتي أبداً فأمر مُعيب وعِزة بالإثم وإصرار على خَطأ يُمَثل العَمى كله. بَعض الشُعوب ترفُض البَقاء عَمياء طَويلا، لذا تحاول إعادة النَظر الى عيونِها قبل فوات الأوان، أما بَعضها الآخَر فتَستَمريء العَمى، ولا يُهِمّها أن تقضي أعمارَها دون نَظَر وبرؤية مُشَوّشة أو حَتى مَعدومة، لترى فقط ما يُريدُه مُبَرمِجي رُؤاها وأفكارها مِن السِاسة أو سَدَنة أوهامِها مِن رجال الدين.
ففرنسا صاحِبة ما تسَمّى بأم الثورات وهي الثورة الفرنسية أعادَت الإعتبار ومُنذ عُقود لحُقبة ملوك عائِلة البوربون، وتوّجَت ذلك بالإحتفال بذكرى وفاة أبرَز ملوكها وهو لويس الرابع عشر، كما رَمّمَت قصورهُم وجَعَلتها مَحَجّاً للسِيّاح وإقامَت مَعارض لمُمتلكاتِهم، آخرها مَعرض مُقتنيات الملك لويس السادس عَشر وماري أنطوانيت الذي شَمِل 300 قِطعة مِن الوثائق والرَسائل والأثاث والثِياب واللوحات والمُجوهَرات ومَناضِد وتيجان وأوعية خزفية وعُلب مُزخرَفة، مَرّت عَليها ذات يوم لمسَة لويس السادس عشر وزوجته. واليوم يَنظر الشَعب الفرنسي وكذلك نُخبه السياسية والثقافية للمَلك لويس كرَمز وطني، مَع مُحافظتهم على صورة رومانسية لثورة العَوام التي أنهَت حُكمَه لما لها مِن تأثير إيجابي على صورة فرنسا عالمياً في عالم لا تزال بَعض مُجتمعاته تقدِّسُ فوضى الثورات. 
كذلك فعَلت روسيا مَهد ما يُسَمّى بالثورة البلشفية التي غَزَت العالم بأفكارها الثورية وكانت المُحَفِّز لأغلب ثورات النُصف الأول مِن القرن العشرين، فأمام الضَغط الشَعبي الواسِع إضطَرّت الحكومة الروسية التي لا تزال تحمِل إرثاً ثورياً مُعادياً لفترة المَلكية ولحُكم القياصرة في روسيا، الى رَد الإعتِبار لهذه الفترة مِن تأريخ روسيا مُمَثلة بالقيصر نيقولا آخر قياصِرة روسيا الذي أعدِم وأفراد عائِلته  بطَريقة وحشِيّة بشِعة مِن قِبل لينين وزُمرَته مِن البلشفيين عام1917في المنزل الذي كانوا مُحتجَزين به على أطراف موسكو، والذي لم يَستطِع البلشفيون على مَدى تِسعة عُقود مِن حُكمِهم لروسيا وتزويرهِم للتأريخ وتشويهِهم للحقائِق مَنع الروس مِن البَحث عَن قبره وعائِلته لإعادة الإعتبار اليهم. ففي عام 2008 أصدَرَت مَحكمة روسيا العُليا حُكماً بإعادة الإعتبار اليهم جاء فيه “إن آخر قياصِرة روسيا نيقولا الثاني، الذي أعدِم أبان الثورة البلشفية عام1917، قد قتِل بغَير وَجه حَق ويَستحِق إعادة الإعتِبار القانوني اليه” وجاءَ بنَص الحُكم الذي تلاه كبير قُضاة روسيا “إن مَقتل القيصَر نيقولا وزوجته الكسندرا وأولاده لم يَستنِد لأساس قانوني،وقد ذهَبوا ضَحِيّة تعَسّف سياسي لم يَكن مُبَرّراً، يَقع ضِمن مُمارَسات التنكيل والاضطِهاد التي تعَرّض لها مُعارضوا حُكم البَلاشفة، لذا قرّرَت المَحكمة إعادة الاعتِبار لهُم”. لقد جاء هذا القرار الجَريء تتويجاً لجُهود بُذِلت على مَدى سَنوات لإعادة الإعتِبار لنيقولا الذي سَبَق وإعتبَرته الكنيسة الارثذوكسية شَهيداً عام 2002، وقد عَلق لكيانوف مُحامي عائِلة رومانوف”هذا قرار إنتظرَه الروس تسعين عاماً، إستنَد لِنَص في القانون الروسي يَقضي برَد الاعتِبار لمَن تعَرّضوا للإضطِهاد خلال العَهد السوفيتي على أسُس فكرية وطبَقية وإجتماعية ودينية”. فاليوم يَعتبر أغلب الروس نيقولا وعائِلته شُهَداء ويَنظرون لقصورهُم كرُموز تأريخية ويَحنّون لعَهد القياصِرة إجمالاً ويَتذكرونه بإعتزاز لأنه عَهد أصيل يَختزن تُراث أمّتِهم العَريقة، على عَكس العَهد السوفيتي الذي يَتذكرونه بمَرارة وحُزن لأنه حاوَل مَسخ هذا التُراث وكان عَهداً دَخيلاً عَليهم بأفكاره ومُمارَساتِه الغريبة التي لا تمُت لهُم بصِلة.
وكما حَدَث في فرنسا وروسيا، ترنو أنظار الكثيرين بأنحاء مُتفرقة مِن العالم الى أن تتحلى نُخبَهم السياسية والثقافية بالجُرأة التي تحَلت بها النُخبة السياسية والثقافية الروسية والفرنسية، لإعادة النظر بتقييم المَراحِل التي مَرّت بها بُلدانهم. وهو بالفِعل ما قام به المَصريّون عندما أعادوا الإعتِبار الى مُؤسِّس دَولتِهم الحَديثة الألباني الأصل محمد علي باشا وأولادِه وأحفادِه وآخِرُهُم المَلك فاروق مُنذ زمَن بَعيد، فبَعد إنتِهاء العَهد الناصِري الذي شَوّه الفترة المَلكية وطَعَن بشَرعِيّتها لإضفاء الشَرعية على إنقِلابه اللاشَرعي في1952، وبَعد أن زالت نشوة الثورة بهَزيمة حُزيران 1967، وحَلت العَقلانية والدَولة مَحَل الفوضَوية والثورة، بَدأت بَعض النُخَب المَصرية تدعوا لإعادة تقييم الفترة المَلكية، وذهَب البَعض لأبعَد مِن ذلك مُطالباً بإعادة الإعتِبار لرُموزها بَدئاً بمحمد علي وإنتِهائاً بفاروق. ومُنذ مَطلع القرن الحالي عُقِدَت مُؤتمَرات كثيرة، ونُشِرَت أبحاث وكتُب أكثر عَن المَوضوع، كوّنت بمُجملِها رَأيا عاماً يُعَبّر عَن توَجّه سائِد بمصر مُنذ فترة يَطرَح بقوة مَسألة رَد الاعتِبار،وقد تُرجِم هذا التوَجّه بخُطوات عَمَلية مَلموسة كثيرة، أبرَزها سَماح الراحِل السادات بدَفن فاروق الى جوار مَسجد الرفاعي بالقاهرة بَعد سَنوات مِن وفاته عام 1965 بايطاليا، وإعادة إفتِتاح قصر عابدين بمُقتنياته التي لم تطالها يَد الهَمَج والرُعاع كما حَدَث بالعراق وإعادة الإعتبار له كرَمز مَصري وتحويله الى مُتحَف وإفتتاح نادي محمد علي، إضافة لسِلسِلة كِتابات وبُحوث باتجاه إنصاف الملك فاروق، ولعَل مُسَلسَل(المَلك فاروق) كان مِن الخُطوات البارزة في سِياق رَد الإعتِبار له.
هذه كلها أمثِلة لأمَم ومُجتمَعات لم تنساق وَراء مَواقف مُتوارثة ورُوايات مُتناقلة، سَواء كانَت صَحيحة أو مُفتعَلة، بَل أعادَت تقييم تأريخَها كما هو، بالحِياد والتسامُح الجَميل لمُجتمَعات تجاوَزت ثقافة الثأر وبَلغت ضِفاف التصالح مَع نفوسِها وماضيها. وهذه هي القاعِدة الأعَم لأغلب الأمَم المُتحَضّرة. ولكِن لكل قاعِدة شَواذ، لذا ما تزال بَعض المُجتمَعات غَير مُتصالِحة مَع ماضيها ومَع نفوسِها، كالمُجتمَع العِراقي الذين لم تَحسِم نُخبَه أمرَها بَعد مِن فِكرة إنصاف التأريخ،وبالتالي إعادة الإعتِبار للمُشَوّه والمُفترى عَليه مِنه، ويَبدوا بأنها لن تفعَل ذلك حَتى في المُستقبل القريب، لعَدَم توفر الظروف المَوضوعية والمَنطِقية لذلك في تركيبَتِها الإجتِماعِية. فباستِثناء قِلة مِنهُم أعادَت قراءة تأريخَها بحِيادية، وأيقنَت بأن إعادة الإعتِبار للفترة الملكية مُتمَثلة بمُؤسِّس الدَولة العراقية الحَديثة الملك فيصل الأول الهاشِمي وولدِه وحَفيدِه، وإدانة ما حَدث بإنقلاب 14 تموز،هو بداية التصالح مَع ماضيها ونفوسِها، تبقى غالبية هذه النُخَب بَعيدة عَن هذه الثقافة. فهيَ إما نُخَب مِن يَسار لا حَول له ولا قوة، بَدأ يَستشعِر أخطائه التأريخية لكنه خَجل مُترَدّد مِن الإعتِراف بها،حائِر بيَن قناعاتِ حالية بصَواب مَفاهيم الديمقراطية والشَرعية الدستورية التي ناصَبَها العَداء وحَرّضَ الجَماهير عَليها طوال عُقود،وبَين رَواسِب ولاءه لمَفاهيم دكتاتورية البرولتاريا والشَرعية الثورية وأنظِمَتها الشُمولية التي نشأ عليها. أو هُم نُخَب مِن إسلام سياسي بيَده الحَل والعَقد، لكنه مَريضُ النفسِ ومُشَوّشُ الفِكر، غَير آبه ولا مَعني بهذا التأريخ وأحداثه، ولديه تأريخ مُفتعَل الأحداث، مَحشو بمَفاهيم الحِقد والكره، يُريد إحلاله بَدلاً عَنه. طَبعاً المُجتمَع العراقي اليوم إما خلفَ أولئِك أو خلفَ هؤلاء، لذا نَجد أفرادَه غير مُتصالِحين مَع أنفسِهِم ومَع بَعضِهِم، لأن تأريخُهم مُلتبس عَليهم، وبالتالي لا إعتِبار له عِندَهُم، ما جَعَلهُم يَفقِدون إعتِبارهِم لأنفسِهِم ولهَويّتِهم، ورأيناهُم مَطلع القرن الواحِد والعِشرين يَلوذون بهَويّات فرعِيّة مَذهَبيّة وعِرقِيّة ودينيّة حَوّلتهُم لشَراذِم وكتل بَشَريّة غَير مُتجانِسة، وهُم الذين دَخلوا القرن العشرين بهَوية وطنية عِراقية واحِدة بفضل مِلوكِهم ومُؤسسي مَجد دَولتهم الحَديثة الذي أضاعوه و جَعَلوه أثراً بَعد عَين.
يَعيش العراقيون اليوم بحَق واقِع مُحزن فيما يَتعَلق بهَويّتهم الوطنية، هذا إن كان قد بَقي لهُم وطَن، وهو واقِع لا أرى له مِن نهاية في الأفق القريب، فمَرّة يَدّعون بأنهُم أحفاد السومريين والبابليين والآشوريين، ومَرّة يَفتخِرون أنهم وَرَثة الحَضارة العَربية الإسلامية، أما جَناسيهم فتبَعيّتها عُثمانية أو إيرانية، بَعضُهم يَدّعي الأنتِساب لكل هذا فيما يَتبَرأ مِنه البَعض الآخر، في فقدان وضَياع هَويّة مُخجل لم يَعرفه تأريخ الأمَم والشُعوب. مَرّة واحِدة فقط في تأريخِهم أصبَح العراقيون أمّة مُحترمة مُتمَدِّنة مُتحَضِّرة لها مَلامِح واضِحة تتحَدّث راقي الكلام وتعرف الأتكيت ويَحسِب لها الآخرون ألف حِساب، وكان ذلك على يَد المَلك الراحِل فيصَل الأول وقد زال كل ذلك بزوال حُكم أسرَتِه في العراق، لذا مَتى ما أعادوا له ولهُم إعتِبارهم الحَقيقي الذي يَستحِقون، حينَها فقط سَيُعيد العراقيون الإعتِبار لأنفسِهم، فهَل سَيَفعَلون؟؟
إن إعادة الإعتِبار لشَخصِيّات التأريخ بَل وحَتى بَعض أحداثِه المِفصَلية لا يَحدُث بشَكل أوتوماتيكي ومِن تلقاء نفسِه ودون مقدمات، بَل يَجب أن يَسبقه جُهد أستِثنائي مُنظم لدِراسة التأريخ والتعَرّف على حَقائِقهِ مُجردةً، بَعيداً عَن أي تأثير أو إسقاطات لرُؤى ومَواقِف وآيديولوجيات جاهِزة. وللأسَف النُخَب العِراقية بغالبيتها، إلا ما رَحِم رَبي، بَعيدَة عَن كل هذا بُعد السَماء عَن الأرض.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات