سأقول أنّ العالم أكثر اكتراث ببابل العظيمة، من العراق الحاضر. وسأقول انّ العراقيين يتفاخرون كثيرا، في بابل، ويتبجّحون بانّ لهم حضارة ساحقة، لكن بالكلام فقط.
في خلال أسبوع، طالعتُ في صحف هولندية وانكليزية، ثلاث مقالات عن بابل، الحضارة والحياة، وكيف انها كانت قبلة الدنيا، تحجّ الناس اليها من كل حدب وصوب، للعمل والمتعة، والنزول الدائم، في وقت تعج فيه الاخبار اليومية عن عراق الحاضر، المتأخّر، المهدّد بالصراعات، وكل فرد من أبناءه يهم بالهجرة لو أتيحت له الفرصة، حتى لو كان ميسورا، متمكّنا.
أعيد الكلام مرة أخرى بان العراقيين يمارسون “الافتخار”، لكنهم لم يؤدوا الواجب تجاه هذه المدينة العظيمة، ولا زالت اقدامهم تسير فوق اطلالها، لكنهم لم يمتلكوا حتى الفؤوس الماهرة التي تستخرج كنوزها، وقد نقّبت عنها بعثات فرنسية وانكليزية وألمانية، ونقلت أهم معالمها الى خارج البلاد، فيما لم يستطع العراقيون، ولو لمرة واحدة التأسيس لجهد وطني ينقّب عن الاثار المطمورة مثلما تفعل مصر على الأقل.
لم يتمكّن العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية من إنشاء حتى شركة واحدة متخصصة تنقّب عن آثارهم في الشمال والجنوب. ينتظرون رحمة بعثات التنقيب التي تتناوب بين الفينة والاخرى على أور وبابل وكيش، وغيرها، فيما الأبناء الذين يفتخرون، عاجزون عن ذلك.
أعود وأكرّر ان العراقيين يتباهون في بابل، لكن حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم بعيدة عن أهالي بابل التاريخية، الذين ملأوا الدنيا بالحضارة في وقت كان فيه العالم عبارة عن صحاري ومستنقعات، وقارات لم تُكتشف.
ناشونال جيوغرافيك التي لا تكفّ عن استعراض سحر بابل، تشير في تقرير، الى انّ بناء الجنائن المعلقة، هو تحصيل حاصل للتطور والتحضّر والاستقرار، الذي وصل اليه أهالي بابل، في حب الحياة وفي ارتقاء الذوق، وفي سمو الثقافة.
كانت شوارع بابل نظيفة ومرّتبة، الى مستوى لم تبلغه أنظف المدن في عالم اليوم على رغم كثرة أعداد سكانها، وعلى رغم انّ المدن القديمة كانت عبارة عن قلاع حصينة محدودة المساحة.
بنى البابليون المصحات النفسية، والمتاجر العظيمة، التي يقدِم اليها الناس من انحاء المعمورة، وكانت معابدهم مراكز ثقافية ومعلوماتية، وليست طقوسية فحسب، فيما ورش العمل، بعمالها ومهندسيها،
جعل من بابل، حاضرة العالم القديم.
العراقيون الذي يزهون ببابل بالكلام، والانشاء، عليهم ان يسألوا أنفسهم فيما إذا هم على مستوى سلوك وابداع البابليين، فليس بالمفخرة بالماضي، تُبنى الأمم.
تقول المصادر التاريخية: لن يخطر على بال أحد، اليوم، أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات، كانت من قبْل، موطن الحضارة الغنية القوية، الخالقة لعلم الفلك، ولها فضل كبير في تقدم الطب، وأنشأت علم اللغة وأعدّت أول كتب القانون الكبرى، وعلّمت اليونان مبادئ الحساب، وعلم الطبيعة والفلسفة، وأمدّت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثها العالم، ونقلت المعارف العلمية والمعمارية التي أيقظت روح أوربا من سباتها في العصر الوسيط.
فِأين العراقيون اليوم من هذا؟ وهل يحق لهم الفخر، إذا لم يرتقوا بوطنهم الى مصاف بابل؟
انّ من العيب على أحفاد حضارة عظيمة، انّهم طوال عقود طويلة من الزمن لم يتمكنوا، ليس في حفر الأرض ومسك التاريخ، فحسب، بل وفي صيانة قطع آثارهم من السرقة والتهريب، حتى استقرّت في متاحف العالم الكبرى.
انّ فسحة في متحف اللوفر، سوف تضعك امام حقيقة، انّ الشعوب المتخاذلة لا مكان لها في الحياة، حتى تلك التي تمتلك تاريخا غامرا، لأنها في خمولها وشيخوختها واضطراب نسق حياتها، سوف تضيّعه، وتهديه الى الآخرين الأقوياء الذي يعرفون كيف يستثمرونه في مشاريع ثقافية وسياحية تدر بالمال الوفير.
سوف يقف العراقيون طويلا على أطلال الحضارات بين دجلة والفرات، وسوف يشعرون بالغرور، والزهو، لكنه زهو الطاووس، لن ينفع في شيء، ما لم ينسجم العراقيون مع القيم والأخلاق لبابل العظيمة، والأخذ بأسباب جبروتها الروحي، وقوتها المادية.