تحرص الأنظمة المُعتبرة على رعاية المبادئ الإنسانيّة الكبرى ومنها الأمن، وحماية الإنسان وحقوقه، وضمان التأمين الصحّيّ والغذاء وسنّ القوانين المانعة للمسؤولين من التعسّف باستخدام السلطات وغيرها من الحقوق الطبيعيّة للمواطنين!
ولقد صُدّعت رؤوسنا في العراق بعد العام 2003 بدخول البلاد مرحلة جديدة (ورديّة)، لدرجة أنّ الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن قال في 17/ تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 إنّ ” نجاح تجربة الديمقراطيّة العراقيّة سيكون نموذجا يُحتذى في باقي العالم العربيّ”!
واللافت للنظر أنّ تكميم أفواه العراقيّين عموما، ورجال السلطة الرابعة من الصحفيّين والإعلاميّين خصوصا جعلت العراق بمراكز مُتقدّمة عالميّا بتطبيق سياسات الفتك والتنكيل بدعاة حرّيّة التعبير منذ الحرب العالميّة الثانية وحتّى اليوم!
إنّ واقع حرّيّة الصحافة والإعلام العراقيّ مليء بالرعب والترهيب، ولا يُمكننا حصر أعداد المهجّرين والمختطفين والمطاردين والمعتقلين والمعوّقين جرّاء الملاحقات (التعسّفيّة القانونيّة) والإرهابيّة التي طالت العاملين بحقول الصحافة والإعلام!
ومَنْ ينتقد ويُحاول الإشارة للخَلل بالملفّات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة سيُواجه مَصائر مُبهمة، أقلّها الاعتقال والاعتداء بالضرب!
وسبق للعديد من المنظّمات الصحفيّة الحقوقيّة تأكّيدها مقتل ما يزيد على (500) صحفيّ في العراق بظروف غامضة منذ العام 2003.
فهل ما يعيشه العراقيّون حاليّا ديمقراطيّة حقيقيّة أم وهميّة مُزيّفة؟
وهل القوانين الحاليّة أو المُراد تشريعها تتّفق مع الميثاق الدوليّ للحقوق المدنيّة والسياسيّة والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بل وحتّى مع نصوص دستور العراق للعام 2005، الذي أجازت بعض موادّه حقّ التعبير لكنّها لم تتطرّق لحماية المُعترضين والمُنتقدين وكأنّها فقرات ملغومة ومقصودة؟
وعند البحث بالقوانين الفاعلة والناظمة لحرّيّة التعبير نجد أنّها مُلْتبسة ومُتضاربة، حيث أكّدت المادّة (38) من الدستور على أنّ” الدولة تكفل وبما لا يَخلّ بالنظام العامّ والآداب: حرّيّة التعبير عن الرأي بكلّ الوسائل”.
ومعلوم أنّ عبارة (وبما لا يَخلّ بالنظام العامّ والآداب) يُمكن توظيفها توظيفا سلبيّا، وقد تكون معولا لقصم ظهور المُخالفين والمُنتقدين للواقع السلبيّ المُتجذّر!
وكان يفترض بالمشرّع المُنصف أن يُكمل المادّة (38) بعبارة واضحة تتضمّن حماية حرّيّة التعبير ومنع أيّ شكل من أشكال الملاحقات القانونيّة والشخصيّة بموجبها!
واقعيّا قد تكون هذه المادّة مصيدة أُقحمت بالدستور لإيقاع الصحفيّين والإعلاميّين تحت سطوتها، وربّما، كانت مادّة دستوريّة مُنمّقة لذرّ الرماد في عيون الدول والمنظّمات العالميّة حتّى لا يُقال بأنّ العراق خال من الديمقراطيّة وحرّيّة التعبير!
وبغض النظر عن القوانين الدوليّة والإقليميّة التي تدعو الدول لكفالة حقّ التعبير وحماية الصحفيّين نجد أنّ حال الصحافة والإعلام بالعراق اليوم يَأنّ ويَحتضر بسبب الحديث عن قانون جديد لتكميم أفواه الصحفيّين والإعلاميّين والناشطين بمواقع التواصل الاجتماعيّ!
وقد أنهى مجلس النوّاب، السبت الماضي، القراءة الأولى لمشروع قانون حرّيّة التعبير عن الرأيّ والتظاهر السلميّ، ويواجه القانون المثير للجدل اعتراضات برلمانيّة وشعبيّة وحقوقيّة وإعلاميّة، داخليّة وخارجيّة.
إنّ القانون الذي يُراد سَنّه يُلزم مَنْ يُريد التظاهر بتقديم طلبه قبل خمسة أيّام من المظاهرة لرئيس الوحدة الإداريّة الذي يُجيز له القانون القبول أو الرفض!
ولا ندري ما مصير الموقعين على الطلب خلال مرحلة انتظار الردّ؟
والظاهر أنّ القوى السياسيّة الكبرى تيقّنت أنّ الصمت الشعبيّ الحاليّ لن يطول ويُمكن، بأيّ لحظة، أن تنطلق مظاهرات عارمة رافضة للخراب العامّ، وعليه كأن القانون المُرتقب هو قانون طوارئ مُقنّن يسمح للقوى السياسيّة وأدواتها المسلّحة بحماية نفسها وضرب منظومة الأطراف المعترضة والمنتقدة للحالة الشاذّة!
فهل نحن أمام ظاهرة فساد جديدة تتمثّل بالفساد التشريعيّ والقانونيّ والذي لا يقلّ خطورة عن الإرهاب المسلّح الضارّ بالدولة والمجتمع؟
ورغم أنّ المجلس أنهى القراءة الأولى للقانون لكنّني أظنّ أنّ القانون سيُجمّد لأنّه في حال إقراره سيُعيد الكرة بملعب الجماهير وقد تجد القوى الحاكمة نفسها أمام مظاهرات جديدة شاملة!
لقد أجبرت سياسات القتل وقضم الحرّيّات والمطاردات الترهيبيّة المئات من شباب العراق منذ مظاهرات تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 على ترك البلاد والبحث عن ملاذات آمنة في كردستان العراق ودول الجوار!
وتابعنا كيف أن القضاء العراقيّ حكم الاثنين الماضي بالسجن المشدّد لثلاث سنوات على الشابّ حيدر الزيدي بتهمة التهجّم على الحشد الشعبيّ لإعادته نشر تغريدة في تويتر، بعد اعتقاله في حزيران/ يونيو الماضي وتعذيبه بقسوة قبل الإفراج عنه بكفالة لاحقا!
وسبق لنوري المالكي زعيم الإطار التنسيقيّ أن وصف الحشد بـ(أمّة الجبناء)، ولم تُحرّك ضدّه أيّ قضيّة قانونيّة!
فهل القضاء يعمل بمزاجيّة أم أنّ القانون يُطبّق على الفقراء فقط؟
وهل سجن الزيدي يهدف لتكميم أفواه المُعارضين خارج العراق وداخله وبالذات شباب تشرين؟
ولكن يبدو أنّ شباب مدن الناصريّة والبصرة وواسط الجنوبيّة لهم كلمة أخرى حيث خرجت مظاهرات، الأربعاء الماضي، تطالب بالإفراج عن الزيدي، وقد واجهتها القوّات الأمنيّة بالنيران القاتلة، وخلّفت ثلاثة قتلى وعشرات الجرحى!
فكيف يُمكننا تَفهُّم التناقض بين هذه اللكمات القانونيّة والقسوة الأمنيّة والإصرار الرسميّ على احترام مبادئ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان؟
فعلا هي حيرة قاتلة وتناقضات مُذهلة!
dr_jasemj67@
نقلا عن صحيفة عربي 21.