أتباع التيار القومي، الذين لا حول لهم ولا قوة، يرقصون فرحا بفوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، ويعتقدون الى حد الغرق بأوهامهم، بأنَّه السوبرمان المرتقب الذي سوف يغيّر الأوضاع في العراق لصالحهم، على حساب النفوذ الإيراني، ومن ثم صعود نجمهم عبر دعم الدول الإقليمية في المعادلة السياسية في العراق.
في مقال مفصل سينشر قريبا (ترامب ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية) عن السياسات الخارجية لإدارة ترامب التي هي رؤية سياسية محددة داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية، يعكسها ترامب كممثل لتيار في الحزب الجمهوري في هذه المرحلة، وعليه يجب النظر الى سياسة الإدارة الجديدة من خلال مكانة ومصالح الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
مسألتان ثابتتان في سياسة الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، وأيا كان ممثله في هذه المرحلة؛ لا خطط لإسقاط النظام السياسي في إيران ولا حل للقضية الفلسطينية عبر تأسيس دولته المستقلة، وسيكون هناك دعم أكبر لإدارة ترامب لسياسات إسرائيل العسكرية والأمنية في المنطقة.
اغتيال قاسم سليماني مسؤول فيلق القدس الإيراني في محيط مطار بغداد في بداية عام ٢٠٢٠، هو نقطة الارتكاز في نشر الأوهام لهذا التيار في العراق. وغير ذلك فليس هناك أي شيء في جعبة هذا التيار.
خلال أربع سنوات من إدارة ترامب ٢٠١٧-٢٠٢٠، وخلال اشهر انتفاضة أكتوبر منذ اندلاعها عام ٢٠١٩، لم تحرك الولايات المتحدة الأمريكية ساكنا سوى التعبير عن “قلقها” أسوة ببقية البعثات الدولية تجاه الممارسات القمعية لحكومة عادل عبد المهدي ضد المتظاهرين، مع الأخذ بنظر الاعتبار، فإنَّه بقدر ما كانت السفارة الإيرانية تستقبل عدد من المندسين في صفوف المتظاهرين من “أبنائها” الذين كانوا يعملون طابوراً خامساً في الانتفاضة وهم معروفون لساحات الانتفاضة، وقد فضح أمرهم بعد ذلك، بنفس القدر كانت السفارة الأمريكية تستقبل هي الأخرى “أبنائها”* وهم من كانوا متوهمين بسياستها وترفع تقاريرها عن ما وصلت اليها التظاهرات.
يعزو التيار القومي، الفقر بشكل عام وإفقار الطبقة العاملة وعموم الجماهير الكادحة في العراق، والفساد والقمع والاستبداد الى النفوذ الإيراني وعملائه من المليشيات في العراق، في حين يحاول وبشكل واعي ومغرض وممنهج التعمية على أنَّ كل الويلات التي أصابت جماهير العراق هي بسبب علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على استغلال العمال واستثمار قوة عملهم ورمي الفتاة لهم من الخيرات التي ينتجوها. ولم يكن النظام البعثي-احد اجنحة التيار القومي- الذي كان يقوده صدام حسين اشتراكيا كما يحاول أصحاب “الورقة البيضاء” في حكومة الكاظمي تسويقها لنا لتبرير خصخصة الخدمات والمحروقات والتعليم ومصانع الدولة. ان النظام البعثي هو من عسكر المصانع أيام الحرب العراقية-الإيرانية وطبق القوانين العسكرية على العمال مثل الجلد والسجن، ومرورا بمنع الحريات النقابية عبر قرار تحويل العمال إلى موظفين في القطاع العام عام ١٩٨٧، وانتهاءً بالتمويل الذاتي خلال سنوات الحصار الاقتصادي في التسعينات من القرن الماضي لرفع الإنتاجية من خلال تشديد ظروف العمل وغير ذلك.
أي بشكل اخر، التيار القومي المهزوم منذ إسقاطه، عبر الحرب واحتلال العراق، يحاول حصر كل ما يحدث في العراق، بوجود النفوذ الإيراني وتمدده القومي بالغلاف الإسلامي فقط. بالنسبة لنا، الفارق بين التيار القومي الذي يعلق آماله في العراق على إدارة ترامب، ومتمنيا أن يحالفه الحظ، مثلما حالف الحظ عصابات طالبان بعودتهم الى السلطة بمساعدة إدارة بايدن، وبين التيار الإسلامي، هو أنَّ الأخير يمثل جناح من أجنحة الطبقة البرجوازية أسوة بالتيار القومي، ولكن بشكله المتعفن والرجعي والعائد كمنظومة فكرية وسياسية واجتماعية من العصور الوسطى أو المنقرضة.
بعبارة أخرى نقول أنَّ التيار القومي، وهو ينفخ سياسيا بأبواق ترامب، ينسى أنَّ الجماهير في العراق قد جربته مدة اكثر من ثلاث عقود، ولم تجن منه سوى الحروب والفقر والمعتقلات والسجون والإعدامات، وإنَّه لا يختلف قيد أنملة عن الأحزاب الإسلامية وميليشياتها، التي لم تغيير غير بوصلة حروبها السياسية والإيديولوجية من حروب الدفاع عن الأمة العربية والبوابة الشرقية الى حروب أهلية بعناوينها الطائفية، أي تغيير اتجاه نصال الحروب من أعداء الأمة العربية الى أعداء الطائفة.
أمّا على الصعيد الاقتصادي، فبدلا من تخمة البطون التي أصابت أفراد العائلة الحاكمة من صدام حسين ومن يدور حولهم من البعثيين والأجهزة القمعية والعشائر المرتزقة، حلت محلها تخمة بطون المتمثلة بالأحزاب الإسلامية وميليشياتها وزبانيتها من كل حدب وصب، ومن أجل تدوير رؤوس أموال حديثي (النعمة) في الطبقة البرجوازية من الإسلاميين ويشاركهم طبعا القوميين الملتحفين بالزي الطائفي ممن هم موجودين في السلطة والعملية السياسية، تنازلوا رغما عن انفهم عن نسبة كبيرة من استثمارهم واستغلالهم للطبقة العاملة الى من يؤهلهم سياسيا واقتصاديا في الاقتصاد الرأسمالي العالمي مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والشركات الإمبريالية العالمية من الشرق والغرب لربطها بالرأسمال العالمي.
وعلى صعيد قمع الحريات حلت سجون ومعتقلات جديدة وسرية، على سبيل المثال وليس الحصر في مطار المثنى وبوكا وجرف الصخر والمنطقة الخضراء بدلا من الأمن العامة والحاكمية والشعبة الخامسة والرضوانية وغيرها.
إنَّ معضلة التيار القومي ليس مع البطالة ولا مع الاتفاقيات الاقتصادية مع المؤسسات المالية العالمية المذكورة ولا مع أحقية جماهير العراق عموما بالحرية والرفاه والمساواة، إنَّما مشكلته مع جنسية المستثمر والمٌسّتغِل، فهو يحاول الوصول من جديد للسلطة عبر دعم الأمريكي مثلما وصل من قبل، ومثلما وصل التيار الإسلامي الى السلطة.
لذلك نجد أنَّ المالكي وحزبه وأعوانه يتحدث هلعا عن البعثيين وعودتهم -انظر مقال (لماذا هذا الهلع من عودة البعثيين)-، لأنه يدرك أنَّ المطية التي أوصلتهم الى سدة الحكم، هي نفسها، قد توصل التيار القومي بما فيه البعثيين من جديد الى السلطة.
وأخيرا علينا التأكيد من أنَّ سياسة ترامب لن تحرك ساكنا تجاه الأوضاع السياسية في العراق من زاوية مصالح الطبقة العاملة والتواقين للتحرر والمساواة، وليس هذا فحسب، بل أنَّ سعي التيار القومي بنشر الأوهام حول ما ستفعله إدارة ترامب، من شأنه خلق حالة انتظار في صفوف الحركات الاحتجاجية الداعية للمساواة والمدنية والتحضر وأعلاء قيمة الأنسان، وهي حالة خادعة وكاذبة اقل ما توصف بالسراب بما ستنتجها السياسة الأمريكية في العراق.
وعليه تتقوم مهمتنا بقدر ما يحتم علينا التصدي سياسيا ودعائيا واجتماعيا للاسلام السياسي، وليس من زاوية نزعة المعاداة للاسلام السياسي، بل لأنه جناح من اجنحة الطبقة البرجوازية القائم على الاستثمار والاستغلال للعامل. وبنفس القدر يجب التصدي للسياسات الامريكية التي ليس لديها خلاف مع الإسلام السياسي سوى على نسبة الحصول على حصة الأسد من فائض قيمة قوة عمل العمال. ولقد عشنا ورأينا كيف ساعد الغزو والاحتلال هذه العصابات لتبوء سدة السلطة وسوقتها عالميا ليس في العراق فحسب بل أيضا لإخوان المسلمين في مصر وتونس وسورية أيام هبوب نسيم الثورتين المصرية والتونسية على المنطقة لاحتواء الثورة ووأدها.
- “أبناء السافرات” وهو لقب أطلقته الجماعات الموالية لإيران من المليشيات على فعالي ونشطاء وقادة انتفاضة أكتوبر 2019 لتخوينهم وبأنهم عملاء للسفارة الأمريكية، لتبرير قتل قناصتها لـ 800 متظاهر وجرح 20 الف في ساحات الانتفاضة في التحرير في بغداد، والحبوبي في الناصرية العروسة في البصرة والصدرين في النجف وغير ذلك في مدن أخرى