كانت الوقت يشير إلى ما بعد منتصف الليل عندما غادرت منزلي في مدينة الموصل..منطقة موصل الجديدة ومعي افراد عائلتي متوجهين إلى موعد التجمع للقافلة في احد المساجد في الجانب الايسر مع المتعهد الحاج سعيد خليل. بعد ذلك،ودعنا عوائلنا وتوجهنا إلى مقر هيئة الحج للتجمع مع القوافل الأخرى، ثم انطلقنا إلى مطار أربيل حيث تم القيام بإجراءات الدخول والتوجه إلى الطائرة في الساعة المحددة، متوجهين إلى مطار الملك عبدالعزيز الدولي في مدينة جده السعودية. بعدها، توجهنا إلى الباصات المهيأة لنقلنا إلى مكة المكرمة، أولى محطات الحج، واستغرق الطريق ساعتين تقريبًا.
وبعد دخولنا مكة المكرمة، توجهنا إلى الفندق لاستلام غرفنا الخاصة، وفي صباح اليوم توجهنا إلى المسجد الحرام والكعبة المشرفة لتبدأ رحلة لا يمكن نسيانها.
ما أجملها من رحلة وما اجمل هذا اليوم وما أروع هذه اللحظات الروحانية التي يعيشها المسلمون في هذا المكان الطاهر المقدس. الدموع تسبق الكلمات واللسان ينطق بالتهليل والتسبيح…
نعم، إنها بداية لهذه الرحلة الطاهرة، رحلة الهدوء والسكينة للروح، والتي تعتبر المفتاح الشامل للدخول إلى ضيافة بيت الرحمن.
اليوم وصلنا إلى كعبة المسلمين في مكة المكرمة وقلوبنا مملوءة بالشوق والرهبة، وفي هذه اللحظات نسينا كل ما عانيناه من مشقات السفر والانتظار في المطار وغيرها من الأمور التي تواجه المسافر. اليوم لبسنا الإحرامات ملبين نداء جدنا نبي الله إبراهيم عليه السلام: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك.
ما إن وطأت أقدامنا أطراف المسجد الحرام حتى بدأنا نعيش بشعور لا يوصف. لقد تغير فينا كل شيء، حتى أرواحنا أصبحت ليست تلك الأرواح التي كانت تعيش في الخارج تلهث خلف الدنيا وملذاتها.
هنا الخشوع والعظمة الإلهية، هنا الرهبة داخل النفس، نبضات قلوبنا تتسارع ودموع عيوننا تجري بدون إرادتنا. ما أجملها أول نظرة إلى الكعبة المشرفة، ذلك المكان والبناء المشرف الذي تهفو إليه القلوب منذ آلاف السنين. وقفنا هنا لحظة صمت وخشوع وأيدينا مرفوعة بالدعاء ونحن نستشعر عظمة هذا المكان والزمان. هنا كان يعيش الأنبياء، هنا تأتي الملايين كل عام لتأدية المناسك المقدسة. الله الله الله، ما أجمل هذه اللحظات وأنت تعيش بين يدي ربك وفي بيته المحرم. دعاؤنا لأنفسنا ولعوائلنا، دعاؤنا لكل من نعرفهم من أصدقائنا وإخواننا: اللهم اغفر لهم، اللهم حَسِّن خاتمتهم، اللهم أدخلهم الجنة بلا حساب، اللهم أعطهم الصحة والعافية، اللهم ارزقهم من حيث لا يحتسبون يا رب العالمين يا الله.
توجهنا إلى الطواف وبدايته تكون عند الحجر الأسود وبدأنا بالدوران سبع مرات حول الكعبة المشرفة وألسنتنا وقلوبنا تذكر الله وتدعوه بالرحمة والمغفرة وأثناء دوراننا في هذا الفلك الروحاني والقلوب عامرة بالإيمان تستشعر عظمة الخالق واراداته بهذا المكان..
أيها الإخوة، هنا الطواف ليس مجرد حركة بأجسادنا كما نفعلها أحيانًا في البرامج الرياضية الخاصة، هنا العقل والقلب يسيران نحو مركز التوحيد، نحو كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
بعدها توجهنا للسعي، توجهنا الى الصفا والمروه المرضى منا كان بعربه وانا احدهم، وبدأ السعي بين الصفا والمروة. ورغم أن المعالم قد اختفت بسبب البناء الشاهق إلا أننا تذكرنا هنا واقتدينا بالسعي الذي قامت به سيدتنا هاجر أم إسماعيل عليهما السلام. وفي كل شوط يتجدد إيماننا وثقتنا برحمة الله ونحن نتأمل كيف كانت أم لوحدها في صحراء قاحلة، صحراء جرداء، وابن يبكي يريد الماء وهي تدعو الله وحدها بين هذه الجبال. وما أجمل دعواها لأن الله لم يخذلها فأعطاها ما تريد ففجر لها زمزم،
زمزم هذا النهر العظيم الذي يروي الملايين من الحجاج وعلى مر أكثر من آلاف السنين.
وبعد نهاية السعي يقوم الحجاج بحلق الشعر أو تقصيره معلنين بذلك التحلل من الإحرام وبهذا قد أدينا وأكملنا عمرة التمتع وهي أولى الخطوات من مناسك الحج المقدس…
إخوتي الأفاضل،
إن أول أيام في الحج يوم لا يمكن نسيانه، فهو لحظة ميلادنا من جديد وهو بداية تقربنا إلى الله وتطهر نفوسنا لأننا بدأنا بمسح الذنوب وتصفية الأرواح من كل دنس. إنها رحلة لا نقيسها بالأميال والكيلومترات بل نقيسها بمدى ما تختاره قلوبنا من خشوع ورضا. اللهم إنا نسألك القبول، اللهم ثبت أقدامنا عند الصراط، اللهم تقبل منا واقبلها عنا يا رب العالمين يا الله…
اللهم اغفر لنا ولعوائلنا فانت الخليفة فيهم بعدنا.اللهم اغفر لاخواننا واصدقاءنا ومحبينا وكل من فرح بقدومنا لاداء فريضةالحج….
وها نحن نعود الى الاستراحة في الفندق ورغم مشقة السفر إلا أن قدسية المكان تنسينا كل شيء، لقد دعونا للجميع ان يهيأ لهم الله الاسباب لزيارة هذا المكان الطاهر المقدس..