23 ديسمبر، 2024 12:12 م

“الرشاوي الصغيرة تبقي الصداقة… والرشاوي الكبيرة تجعلها قابلة للتنبؤ” !!
الفساد ليس مشكلة أخلاقية واقتصادية وسياسية فحسب إنما مشكلة نظرية وحقيقية مجتمعيا, وبتعبير أدق فأن الفساد هو مشكلة المجتمع الحديث فما الذي يمكن أن نفهمه حول أفكارنا عنه؟ حينما نلاحظ انتشار الفساد والجدل العام حوله ينبغي النظر في كلا الجانبين, الفساد كممارسة في التأثير الاجتماعي والفساد كموضوع للاتصال في المجتمع وافراده في اتصال بعضهم ببعض، فالفساد يؤدي إلى الغضب الشعبي وإلى اللامبالاة والانفصال عن السياسة ويعطي زخما للتغييرات السياسية الواسعة. والفساد هو علامة على التخلف وانحرافا مرضيا، يلامس الإحساس الجماعي بالعدالة والأمانة، ولكنه أيضاً يثير الشعور بأنه إذا بذل المرء جهوداً لمكافحة الفساد فمن الممكن تغيير الوضع ولا يزال من الضروري توضيح كيف إن إحياء الفساد يتم باستمرار في الظروف المعاصرة وفي كل مكان لان الفساد ليس أكثر من شكل من أشكال تنفيذ الرغبات الفردية في مجتمع لا يثق أعضاءه ببعض ولا يتحكمون بتصرفاتهم.
دوما ما نغفل عن المتطلبات الهيكلية للفساد ودور المؤسسات وتأثيرها وادوار الحالات الوسيطة، وإن إعادة بناء العمليات النفسية والاختيار الفردي لا تعطي إجابة عن سؤال: ما هي اعتبارات النفعية والمصالح وتضارب القيمة داخل المجتمع التي تؤدي إلى حقيقة المشاركة في “شبكة” فاسدة تصبح سلوكًا مفيدًا ومطلوبًا؟ ووفقاً لأولئك الذين يلاحظون الفساد من الخارج فإن انتشار ظاهرته تشير إلى أزمة في الهياكل العامة للحفاظ على القانون والنظام والتي لا يتم التعبير عنها فقط في انحراف الفاعلين الفرديين عن الأعراف الاجتماعية وإنما أيضًا قبل كل شيء في التوزيع الخاطئ للموارد العامة كالمال والسلطة والسمعة والهيبة الأخلاقية. وإن محاولة دمج العنصر “الأخلاقي” في الفساد كتعبير عن الدونية الأخلاقية للفاعلين، تبدو لي غير منتجة ولا فاعلة فنحن لسنا في زمن الانبياء!!! وإن هذا الشكل من التخصيص هو الذي يخفي الطبيعة المتناقضة للنظام المعياري للمجتمع الذي يسمح بظهور حالة مزدوجة ويعطي الأسس للجهات الفاعلة، فيمكن محو الحدود بين الفساد وعدم الفساد بسهولة على المستوى الفردي إذا كان لدى الجهات الفاعلة أسباب لتحل محل التمييز بين فئات السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي مع فئات النجاح والفشل، وإن محو الحدود هو رد فعل للضغط الواقعي أو الخيالي من الخارج الذي يضع موضوع الفساد أمام خيار ما إذا كان يريد المشاركة فيه أم لا.
يتم تقليل الافتراضات النظرية لتفعيلها عبر مرجعية تحليل الظروف التي تصرف فيها الفاسد، وعادة ما لا تتجاوز دوافعه ما سبق إثباته وإن البحث عن نوع معين من الشخصية يتميز بميل إلى تحريف السلوك وينتهي دوما بالفشل، ويمكن الافتراض أن “الشخصية الفاسدة” هي صورة نمطية، تجعل شعبيتها من الممكن الحفاظ على البنية القائمة والراحة النفسية والكشف عنها وتحديدها، ولا شك في أن الفساد يجلب منفعة خاصة للأفراد وأنه يتوافق مع نموذج لتبادل المنفعة مع البعض والذي يتم على أساسهم مثل تلك المعاملة على حساب أطراف ثالثة والتي هي في الأصل تكون مدعومة ومحمية من الجهات الفاعلة التي تتخذ خطوات نشطة لإخفاء الصفقة. ومن الواضح أنه لا توجد سمات شخصية خاصة يمكن أن تكون المعيار الوحيد للتمييز بين سياسي أو رجل أعمال أو مهني محترم أو انتهازي أو تافه، وإن نظرية اختيار وبيان الفاسد في تلك الحالة تعود إلى الظروف التي يجد فيها الشخص ذاته وإلى الدوافع والمحفزات التي تولدها حالة الفساد المعينة. ومع ذلك فإن تحليل الاحتمالات لا يحل محل الإجابة على السؤال، فلا يزال من غير الواضح ما هي مجالات التنمية الاجتماعية التي تسمح للآليات القديمة بالاستمرار في العمل في العصر الحديث أو لماذا تفتح الظروف والحوافز الجديدة فرصًا ليس فقط للفساد بل أيضًا للمعارضة السياسية والمعنوية لها, وهنا نرى إن تقليل المشكلة لتمييز الفشل الذريع للدولة وفشل السوق بشكل غير مقبول يبسطها، واعتمادًا على التفضيلات الأيديولوجية فأن المجتمع ككل يمكن تنظيمه إما كسوق أو كدولة ديمقراطية مثالية حتى يتمكن من حجب أوكسجين الفساد. وليس من الأفضل مع نظرية الديمقراطية الهشة افتراض أن الفساد هو عنصر إلزامي محدد النظامية في السلطوية إذ لا شك أن الأنظمة السلطوية والمركزية توفر المزيد من الفرص لتحقيق المصالح الخاصة في غياب المنافسة أو السيطرة العامة، فلذلك لا يزال من المثير للجدل ما إذا كانت الدولة القوية عرضة للفساد لأنها قوية أو ربما ضعفها يكمن بالضبط في حقيقة أنها غير قادرة على توليد الثقة في شرعية مؤسساتها وفعاليتها وبالتالي تصبح فريسة فساد اقتصادي للنخبة السياسية والاجتماعية.
يعتبر الفساد مكافئ وظيفي لغياب شرعية وفعالية المؤسسات أو استحالة إشراك بعض الفئات الاجتماعية، ومن المهم معرفة ما هي الشروط والحوافز لتطوير الفساد وتحديد المنطق الذي بموجبه تتخذ الأطراف الفاعلة ومجموعات الفاسدين في الوضع الحالي من قرارات، إذ تندمج القوة والمال بسرعة وبصورة غير محسوسة، والمال يساعد على القوة، والسلطة تفتح إمكانيات جديدة للمال، فهل هناك طريقة أفضل لإثبات أو تقوية الصداقة؟ الإجابة تتماثل لدينا في إعادة صياغة المثل القديم ” الرشاوي الصغيرة تبقي الصداقة… والرشاوي الكبيرة تجعلها قابلة للتنبؤ ” !!! ويمكن للمرء أن يجد نفس الانعكاسات لكنه يجادل على المستوى الكلي من وجهة نظر المنظور المتأخر والتنمية غير المتوازنة من قطاعات الحياة العامة والتي هي ليس لوضع معايير موحدة للأمانة العامة والنزاهة، والأشكال التقليدية لتبادل الهدايا والمحسوبية والمحاباة التي لا تزال موجودة، وإن الهياكل النمطية الموجودة في المنظمات والهيئات الإدارية تعتبر بدرجة أقل أنها تستوفي معايير حماية المصالح العامة وإلى حد كبير كجزء من الشبكة الملزمة بالعطاء والتقديم.
وان اردت إن أصبح واقعيا فيفترض إن اقول وعلى عكس الأخلاق ينبغي اعتبار الفساد شيئا وظيفيًا وإن الأخلاق في هذه الحالة تعارض “الواقعية” التي توفر فرصة لكل شيء لكي تأخذ مجراها ومع ذلك فإن تحليل الحالات التاريخية الفردية تثبت أن الفساد له تأثير اقتصادي وسياسي واجتماعي سائد في الغالب وإنه يجعل الفقراء أكثر فقرا ويمنع الحركة الاجتماعية ويعوق النمو الاقتصادي ويحول النظم السياسية إلى فاشلة ويدمر شرعيتها فتنهي بعضها البعض، لذلك يتم تقديم الفساد على أنه عودة إلى المقايضة وعلاقات دنيئة معينة، ويشمل العمل السياسي المباشر والعمل المحدد مقابل التبعات الاقتصادية. كما ويمكن القول إن الفساد سوف يتطور دائمًا عندما لا تكون هناك سلطة للنظام السياسي كما أن المعايير العالمية وغير الشخصية لعمل حكومة أو مسؤول سياسي لم تتمكن واقعيا وإلى ألان من التغلب على المصالح الخاصة للأفراد، ويمكن قول الشيء نفسه عن الحالة التي يحدث فيها توزيع الدخل أو السلطة أو الهيبة على أساس معايير الإنجاز غير العالمية أو المساواة الشكلية في الفرص والتي تنتمي إلى مجموعة معينة أو منشأ أو معايير زائفة أخرى، فعدم المساواة الناجم عن التقسيم الطبقي الاجتماعي يؤدي إلى حقيقة أن الجهات الفاعلة الفردية أو الجماعية تميل إلى الدفع للحصول على الوضع المطلوب أرستقراطيا أو لاستخدام موقف الفساد الناتج من أجل أن تكون قادرة على اتخاذ القرارات من أجل الإثراء الشخصي، وفي مجتمعاتنا جميعا لا يوجد شيء من شأنه أن يهز ثقة الأفراد والشعوب بأنهم يستحقون أكثر مما لديهم، أو أن ما لدى الآخرين هو نتيجة منافسة غير عادلة وبالتالي فإن نظام قيم المجتمعات مع تركيزها الزائف على تحقيق الأهداف والمساواة والتعبير عن حرية التعبير عن الإرادة فهي لا ولن يمكنها أن ترضي شعوبها، والتي من الغير ممكنا لها أن تكون راضية ولو جزئيا بسبب تطرف الاقتصاد وفساد الأنظمة ووحشية المؤسسات السياسية.