نظر في المرآة إلى وجهه الذي حفر على صفحته خطوط على شكل أخاديد وحفرات كأنهار جفت مياهها وعيناه الغائرتين وشفتاه المختبئة خلف الشارب الكثيف واللحية البيضاء المتدلية حيث أسدل ستارها على ذقنه ليعلن التمرد على حياته التي أثقلت كاهله وأتعبته السنين الماضية في بداية خريف عمره وحوادثها بطولها وعرضها لم يبقى منها إلا حقيبة جلدية من الجلد القديم مخبأة تحت سريره في دار رعاية المسنين جمع فيها ذكرياته الجميلة والتعيسة وصورا وقصاصات ورقية ودفتر مذكرات . التفت إلى الوراء لينظر إلى الحديقة الأمامية للنزل من وراء نافذته المطلة عليها يراقب تساقط أوراق الأشجار الخريفية وهي تغادر أغصانها كسنوات عمره التي تغادره كل يوم وهي تأخذ من صحته تدريجيا كان الجو صحوا وجميلا والأشجار تودع أوراقها الخضراء والبنية اليابسة لتستعد للشتاء أخذ يتفحص الحديقة بنظرة شوق ولهفة وترقب كأنه يفتش عن شيء ما ينتظره . سأله جليسه وأعز صديق له الآن وخزانة أسراره ورفيق حياته عن سبب هذا القلق الذي ينتابه طوال ساعات الصباح الباكر . لقد تأخر عليّ كثيرا يا صديقي على غير عادته . من الذي تأخر متسائلا ؟ أجابه على الفور بكلمات الحزن ولدي الكبير أن هذا موعد الزيارة فقد بدأت أقلق عليه كثيرا وقلبي يحاول أخباري بشيء ما حدث أو سيحدث فقلب الوالد لا يخطأ .أثار الشكوك في قلب صديقه وزرع القلق في روعه أخذ يطمئنه ويبدد شكوكه نزل إلى ساحة الدار ليسند ظهره على الأريكة الخشبية وعينيه شاخصتين إلى بوابة الدار يرمقها بنظرات اليأس والحنين مضت ساعات النهار وانقضت وتبدد الأمل . أسدل الشيخ على عدة قطرات من الدموع في محجر عينيه وأطبق عليها بجفنيه مخافة افتضاح أمره أمام نفسه المكابرة حبس أنفاسه وأرجعها إلى رئتيه بشهيق عميق على ألم الفراق والشوق لأهله في هذا العمر الحرج إلا أن بعض قطرات انفلتت من عينيه لتبلل لحيته البيضاء يحس بحرارتها وهي تسيل على خديه أخذ يقلب أفكاره وفي رأسه تدور الأعذار والتساؤلات عن ولده .أنقضا أسبوعان كأنها سنتين عجاف على قلبه أخذت من صحته الكثير اضطرته النزول إلى أدارة الدار للسؤال عن ولده وبعد الإلحاح تبين أن ولده قد أصاب بوعكة صحية ألمت به وبعائلته بعد عودة أبنه من السفر خارج القطر وأدخلوا الحجر الصحي مؤقتا ولم يخبره بذلك لإصرار ولده في كتم الأمر عن والده خوفا عليه . عرج إلى غرفته مسرعا وأسند ذراعيه إلى الشباك ورفع رأسه وكفيه إلى السماء يتمم بكلمات كانت سرا بينه وبين الله تعالى لا يفهمها إلا الله تعالى والمطمئن القلب في تحقيقها بعدها استلقى على فراشه بجسده المتهاوي المتعب والمثقل بالتفكير شاخص البصر إلى شباك غرفته والدموع تفضحه ولسانه لا ينفك بالدعاء لولده وعائلته ليعيد الفرحة والبسمة لقلبه من جديد