23 ديسمبر، 2024 12:43 ص

أوراق التين : ظلال الخروّب : (لمار) رواية إبتسام تريسي

أوراق التين : ظلال الخروّب : (لمار) رواية إبتسام تريسي

رواية إبتسام تريستي(لمار) تتموضع ضمن أشتغالي على: (سرديات عنف الدولة) والرواية تتعقب العنف تزامنا مع ما قبل الأحتلال الفرنسي، ثم محاولة الانفصال عن الدولة السورية وتشكيل دويلة مذهبية الهوية، ثم فشل هذا المشروع الطائفي
(*)
.تتشعب الرواية تاريخيا، ويثّبت السرد روزنامته مع مفتتح كل فصل من فصول الرواية .، في ثلثيّ الرواية كانت تنموية السرد تتصاعد بشكل مشوّق جدا،كما نجحت موازنات سرد المونتاج في شد القارىء، لكن في الثلث الثالث أتخذت تنموية السرد تتراكم أفقيا فقط .كقارىء تراخت لديّ فاعلية التواصل وتنملت غواية السرد،ربما بسبب علو نبرة التقريرية التاريخية في تناول رموز السلطة وتبئير حركة السرد التي صارت تضيق،وأصبحت أقنعة أسماء رموز السلطة عاطلة الوظيفة. فنيا في الثلث الثالث من الرواية، أنعدمت المسافة بين المؤلفة والسرد، ربما بسبب الإندماج حد التماهي في موضوعة الرواية، وهنا يرى الناقد رجاء النقاش (ما لايجوز أن ينساه أي فنان من أن هناك مسافة لابد من المحافظة عليها بين أي فنان وبين عمله/68)
(*)
ثمة نحت سردي متأن، للأنتهازية في شخوص الرواية، نحت متأن لدرجات السلّم الوصولي الذي ترتقيه الشخصيات لتحقيق مطماعها البشعة. ومن جانب آخر تفننت المؤلفة في تشكيل شخصية لمار بشكل مذهل .
(*)
يستوقفني التراسل المرآوي مع الظل، لدى معظم الشخوص :
يتم تشغيل الظل كشخصية سردية رئيسة، والمؤلفة تريسي، تعين القارىء/ تفطنّه من خلال تثبيت لافتة مكتوبة بخط عالم النفس كارل يونغ :(يُشخّص الظل كل ما ترفض الذات الأعتراف بأنه فيها.ومع ذلك يُقحم نفسه عليها مباشرة أو مداورة. كأن يكون فيه صفات دنيا أو ميول أخرى لاتتوافق مع الذات)..في الرواية يتم تجسيّد مقولة كارل يونغ لعدة مرات
تثبيت كلمة ظل ضمن السياق الروائي
توظيف الشخوص التي تتراسل ظلّيا فيما بينها
ظل تقنية السرد الروائي .
ترى قراءتي أن الذات : قناع والظل هو وجهها
(*)
نثبّت جدولة ظلال الشخوص الروائية
صخر : ظل عمته لمار
صخر : ظل مغيث
الأستاذ : ظل يونس
أسينة : ظل مغيث
أسينة : ظل منور
علي سليمان : ظل علي إبن السيدة أسما
يونس المثقف : ظل الجنرال
(*)
على مستوى تقنية السرد في الرواية، ثمة تراسل مرآوي ظلي بين الفضاء المفتوح في المدينة وبيوتها وبين السجن :
المدينة في مدونتها التاريخية تشتغل على لحظة تاريخية متسلسلة في مدينة اللاذقية، ثم يتنقل السرد من اللاذقية إلى دمشق وتحديدا إلى منطقة (دارميساك) في سرد اللاذقية ودمشق يتحكم السارد العليم في سيرورة النص
مدونة السجن تشتغل منذ صفحة الرواية الأولى في سجن جرستا 2013 يتحكم السجين يونس في السرد
(*)
سرد القرية والمدينة يشتمل أصوات وشخوص وبيوتات، يتنقل فيها السارد العليم بدقة . والسؤال هنا هل السارد العليم هو الأستاذ الذي كان سجينا مع يونس عزيز؟ وإذا كان هو فنحن مع زمن آخر في الرواية،أعني زمن إطلاق سراح الأستاذ بعد المتغيرات في الوضع السياسي ..
سرد السجن، سرد تراجعي يبدأ بسنة 2013 نزولا إلى طفولة يونس، هنا سيكون السجين الملّقب بالاستاذ هو ظل السجين يونس عزيز العائد من حفلة على الخازوق في يومه السابع في سجن المخابرات الجوبة – حرستا، سيكون الأستاذ هو المرسل إليه الأوّل لحكاية يونس(أريد أن أحكيها لأحد قبل موتي،أتعدني أن تحكيها للناس بعد خروجك من هنا؟) هذا الشرط الأول، أما الشرط الثاني فهو تحويل الشفاهي إلى المسطور(عدني بذلك،أنشرها باسم مستعار، المهم أن يعرفها الناس) إذن المروي من قبل يونس في السجن هو كالتالي
*مروي خاص
*مروي أحادي، يبثه يونس إلى الأستاذ
*يطلب يونس من الاستاذ وهو يراكم ذاكرته السردية في ذاكرة الأستاذ أن يقوم الأستاذ بنشره مسطورا مع تثبيت اسما مستعارا للمؤلف !! أليس في الاستعارة الاسمية تجاوراً ظليا ؟ لقد أمضى يونس عمره كاتب ظل وهاهو يكرر انتاجه ظليته مع سيرته !!
*كتابة الاستاذ لأمالي يونس، تمنح يونس حياة ً مسطورة ً تداولية بين قوس واسع من القراّء والقارئات، وهكذا سيتم إطلاق يونس روائيا من الحوت، أما يونس الجسد فسيقبر في مقبرة جماعية لاتختلف عن المقابر التي برّع فيها طاغية العراق طيلة ثلث قرن من الفاشية بطبعتها العربية المنقّحة والمزيدة .نلاحظ أيضا هنا علاقة الظل تتسع
فقد كان يونس ظلا في كتاباته للسلطة يكتبها كما تريد هي، ثم حين أنكشف يونس صارت السلطة هي تعيد كتابة يونس جسديا وحياتيا، وحتى يرد على سرديات عنف السلطة في جسده، استعمل الأستاذ ظلا له ليكتبه / ليسرد، كضربات جزاء مسددة ضد سرديات السلطة .وهكذا تبرع المؤلفة إبتسام تريسي في تصنيع تراتبيات للظل ولكل راتوب فاعليته الروائية المدهشة
(*)
في قرية (تنورين) يعلمها العجوز المبارك كيف تنتقل من فعل تنظر إلى فعل تبصر وهو يطلب منها أن تغوص بعينيها لتبصر الاشجار بطريقة غير مستعملة، وعلى حد قول العجوز الزاهد (للشجر ظلال! والظلال تخدع العين أحياناً،ولها مقدرة على تحفيز المخيّلة لخلق أشياء غير موجودة تأمليها جيدا.هذه الأشكال التي تخلفهّا أوراق التين مع ظل الخراف..انظري إلى ظلال الغيوم على الأرض،ألا ترين كيف تعبر خفيفة منسابة وكأنها طيف مَن نحب!حين تصلين إلى روح الأشياء،ستكتشفين ظلالا خفيّة تعكس روح السموات في الأشياء من حولك،عندما تستطيعين لمسها، تكونين قد وصلت مرحلة الكشف وسيكون الله في داخلك. عندها يمكنك أن تسعي لتكوني في قلب الله/ 84) : هنا لظلال شحنات موجبة ذات موجهات إلى جوانية الإنسان، لكن هذه الموجهات الظلالية، لاتستطيع أختراق مصادات (لمار) لأن لمار أجتث أبواها منها منذ سنواتها الأولى كل براءتها ..
لكن مرافقتها للعجوز المبارك أيقظت خلايا خامدة لديها وجعلتها تتناول الحياة شعريا من خلال مرافقة العجوز في زيارة المرضى، وجمع الحطب وتشعل التنور لتخبز بنفسها مماجعل العجوز وكذلك هي تصاب بالدهشة من نفسها .وهنا لابد أن نتوقف قليلا ليس مع السارد العلبم، بل أيدلوجية المؤلفة التي تناولت شخصية لمار بموضوعية روائية وجعلتني كقارىء أتعاطف مع شخصية لمار..
في ص95 يخبرنا السارد العليم (التبدلات الحاصلة هناك لم تترك له من أمسه سوى ظل شجرة الخروب الممتد على مساحة القلب قلبه الذي لايتوقف عن الخفقان بقوة لمجرد رؤية السور/ 95)
في ص96(مشى في ظلها ساعات لايعرف عددها،كانت أزهار الخروب تساقط والريح تلاعبها تسقط فوق رأسه،يلتقطها بأصابعه ويجمعها بين كفيه ويشمها بعمق.أشتهى في تلك اللحظة رائحة،،الخبيصة،، الساخنة،أعادت الرائحة له أماسي الطفولة عندما كانت أمّه تجمع القرون الغضة لثمار الشجرة وتغليها مع الحليب وتطعمه أياها،كان طبق الحلوى المفضل لديه/ 96) ..هنا يدفعه الظل للغوص في زمنه الشخصي الجواني، فتنتقل رائحة زهورات الخروب من كفيه إلى معدته في طفولتها / طفولته التي تنكهت بالخروب والحليب المغلي..
* نقرأ في ص244(كان وحيداً من دون ظلّه !) ويمكن أن نقرأها كان بكل ضعفه
*(فماذا ينتظر حتى ينفصل عن ظله القصير ذاك /281) هنا التفارق المحتوم بين الشيء وظله .
*(هذه المرة لم يبق وحيداً،كان يتقدم ببطء نحو ظلّ ابنه، ليقيس به ماتبقى من ظلّه القصير/282) هنا محاولة إستقواء الفرد على ضعفه، وظل الإبن وحدة قياس
*(وعاد الصمت ليملأ المسافة بينهما قطعه صوت القائد لكنه هذه المرة آت ٍ من بعيد :إنها تتقدم نحوي تمدّ أغصانها أذرعاً تلتف حول عنقي ظلّها يغطيني منعت عني الشمس.. منعت الهواء..إنها تقترب/ 291) هنا ظل شجرة الخروب :خطوات الزائر الأخير
*(أيمكن أن تغادر الظلال المقموعة أجساد المقاتلين لتصنع ثورة؟/ 317) محاولة جادة للتخلص من شعور الضحية لدى الثائر
*(ببطء انفصل ظله عن جسده ِ، تمددّ عبر الوادي،غطى مساحة الجبل،وتبعته ُ باقي الظلال الهاربة من القصف،صاعدة من عمق الوادي)هنا تشكيل سردي بالغ الشعرية لهزيمة القمع ..
*في قفا الكتاب يكون التركيز أيضا على الظل..(كان يرى ،،لمار،، قادمة من أسفل الوادي…يكاد يقسم إنها ليست طيفاً بل امرأة من لحم ودم،تصعد من عمق الوادي، مصحوبة بظلها المائل إلى يمينها تدوسه أقدام حمارها الذي لاظل له) صورة سردية مشحونة بنكهة كاريكتيرية ، وثمة إيماءة شفيفة لما جرى .. الحمار الذي لاظل له يدوس ظل لمار التي في جرابها أسرار كل نساء القرية ونساء النخبة في دمشق اللواتي تلتقيهن في شقة صخر إبن أخيها علي .
*إبتسام تريسي / لمار/ دار المكتبة العربية /ط2/ 2015
*رجاء النقاش/ قصة روايتين/ دراسة نقدية وفكرية/ دار أطلس للنشر والإنتاج/ ط1/ 2007/ الجيزة
*سرديات عنف الدولة/ مقالة مقداد مسعود عن رواية : خان الشابندر/ للروائي محمد حياوي/ ص139/ سقوط السماء في خان الشابندر/ دار التكوين/ ط2/ 2019/ دمشق