سباق التسلح الصهيوني والإيراني
يعتبر السباق النووي والذي يقصد به تكثيف الجهود لتحقيق نوع من التفوق العسكري وترجيح كفة السلاح النووي لدولة ما أزاء بقية الدول التي تناصبها العداء، او بسبب الاختلاف الايديولوجي مما يشكل خطرا على أمنها الوطني أو القومي. وهذا النوع هو من أهم وأخطر أنواع سباق التسلح مقارنة بسباق الأسلحة القليدية. أما مفهوم سباق التسلح بشكل عام فهو تخصيص نسبة عالية من النفقات الحكومية لشراء الأسلحة والذخيرة من دول أخرى أو تخصيص تلك النفقات لطوير الأسلحة المحلية تقليدية كانت أو من أسلحة الدمير الشامل بغية تحقيق التوازن أو التفوق العسكري مع دولة أو دول أخرى كحلف عسكري، أو ترجيح الكفة التسليحية للدولة أزاء تلك الدول بغية المحافظة على أمنها الوطني أو لتحقيق اهداف توسعية.
من الصفات المشركة بين اليهود والفرس هو سعيهما المحموم في ميدان سباق التسلح بما يؤمن القوة اللازمة لتحقيق خططهما التوسعية في المنطقة العربية والهيمنة على مقدراتها السياسية والاقصادية والثقافية. وقد دفع هذا السباق الدول العربية الى مجاراة هذا السباق في محاولة لتحقيق التوازن مع التسلح الصهيوني والايراني، والرد على الهديدات المستمرة التي يعبر عنها المسؤولين الصهاينة والفرس، فخصصت الدول العربية جزءا كبيرا من موازينيها السنوية على الجانب العسكري على حساب بقية القطاعات الحكومية كالتعليم والصحة وغيرها. من الطبيعي ان سباق التسلح الصهيوني والايراني ينطلق من قاعدة الهيمنة والرغبة في التوسع والإحتلال وعدم الرغبة في إقامة علاقات حسن جوار مع الدول العربية، أو حلٌ المشاكل العالقة بالطرق السلمية ،وهذا ما يتجلى بوضوح في مشكلة الجزر العربية الثلاث التي احتلتها إيران رافضة الحوار بشأنها مع الإمارات أو عرض المشكلة على محكمة العدل الدولية. كذلك رفضها التعاون مع مجلس التعاون الخليجي في مسألة تداعيات ومخاطر ملفها النووي على منطقة الخليج العربي. ويبدو ان التصريحات التي اطلقها زعماء الثورة الأسلامية في بداية تسلم الحكم في التخلص من أرث الشاه وإعادة العلاقات الطبيعية مع بقية الدول، وتعزيز علاقات حسن الجوار، كان تكتيكا مرحليا فرضه الطور الجنيني للثورة الذي لم يشتد بعد ،وقد أفصح عن تلك الحقيقة (د. عطاء الله الهاجراني) في حملة خاتمي الإنتخابية بقوله” إن إيران كحكومة ثورية كانت بحاجة منذ ايام الثورة الأولى لبناء علاقات حسن جوار وهي حالة ضرورية ملازمة لكل الثورات، الغرض منها أن نتمكن من إعادة هيكلة نظامنا السياسي والاقتصادي والإجتماعي”.
تتسم النفقات العسكرية بالسرية، وغالبا ما تتجاوز النفقات الحقيقية النفقات المعلن عنها في الاحصائيات الرسمية، واحيانا تُجزأ بفصل نفقات الأمن الوطني عنها، لذلك من الصعب تحديدها، وإنما تُبنى على التقديرات، والتسريبات التي تصل الى الإعلام بطريقة أو اخرى.
ومهما يكن من أمر فأن النفقات العسكرية غالبا ما تشكل عبئا ثقيلا على النفقات الحكومية وتمتص الكثير من تخصيصات الجوانب التنموية والتعليمية والصحية والثقافية، فكلما ارتفعت كفة النفقات العسكرية كلما هبطت كفة النفقات الأخرى، والعكس صحيح، سيما تلك الجوانب المتعلقة برفاهية المواطن ونوعية وطبيعة وجودة الخدمات التي يحصل عليها. والطامة الكبرى عندما يتم تمويل النفقات الحربية عبر الديون الخارجية، فيزداد العبء على الدولة، في حين تحصل بعض الدول على مساعدات بدون مقابل مادي، كالمساعدات الامريكية الى لبنان ومصر والعراق بعد الغزو، وهي مساعدات تكاد لا تقارن بالمساعدات التي تحصل عليها اسرائيل، فهي تحصل سنويا على حوالي (4) مليار دولار كمساعدات من الإدارة الامريكية علاوة على ما تحصل عليه من مساعدات عبر المنظمات الصهيونية العالمية في الولايات المتحدة والدول الأوربية.
أشارت العديد من التقارير الدولية الى سباق التسلح الايراني الذي أشتد بعد إنتهاء الحرب لعراقية الإيرانية والذي فقد مسوغاته بإنتهاء الحرب كما يفترض، وأبدت الدوائر الغربية والعربية تخوفها منه سيما بعد أن أعلن رئيس البرلمان الأيراني عام 1988 بوسائل الإعلام” يجب علينا أن نسلح أنفسنا بجميع الاسلحة الدفاعية والهجومية والكيمياوية والبيولوجية والإشعاعية”، وقد حذرت الإدارة الأمريكية على لسان (توماس غراهام) كبير ضباط التسليح في إدارة الرئيس كلينتون من الإندفاع النووي الإيراني، وذكر الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بعد قمة دول بحر قزوين بأن” إيران تدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة”.
فقد إنتاب النظام الأيراني بعد تعرضه لعلقة ساخنة من الجيش العراقي البطل خلال حرب الثماني سنوات هوسا جنونيا في سباق التسلح، وقام ببناء جيش ضخم رغم إنتهاء الحرب ووزع من مصادر إستيراده من الأسلحة بعد أنه أيقن أن السلاح الأمريكي لم يسعفه أزاء حربه العوانية ضد العراق، علاوة على فشله في توفير قطع الغيار للأسلحة الأمريكية بعد فرض الحظر التسليحي وتعرض معظم اسلحته للتدمير والأندثار خلال حربه العدوانية على العراق. لذلك فقد توجه النظام الإيراني الى بناء مؤسسات للتصنيع العسكري المحلي مستفيدا من العلماء الهاربين من الإتحاد السوفيتي السابق الذين حملوا معهم معلومات وخبرات تقنية عالية في الإنتاج التسليحي لاسيما أسلحة التدمير الشامل، كما ساعد الإرتفاع القياسي في أسعار النفط على تنفيذ خططه الجهنمية. والغرض من هذا السباق المحموم هو وضع إستراتيجية التوسع والهيمنة في المنطقة موضع التنفيذ أو الإنتقال من النظرية الى التطبيق. .
في تقرير أعده (إيدي هنري) مراسل البيت الأبيض، نقل عن الرئيس بوش تحذيره من التطلعات النووية للرئيس الإيراني أحمدي نجاد. وشبه قطب المحافظين الأمريكان (نورمان بودهورتز) الرئيس نجادي بهتلر من خلال سعيه المجنون للإطاحة بالنظام الدولي الراهن بنظام إيراني بديل يفرض هيمنته بواسطة الفاشية الإسلامية”. رغم ان هذه الدعوى مفرغة من الحقيقة فلا يوجد ما يسمى بالفاشية الإسلامية ولا الإرهاب الإسلامي ولا التطرف الإسلامي وإنما هناك أرهاب وتطرف وفاشية بلا تصنيفات دينية الفاشية مثلا مصطلح غير إسلامي، ويتنافى مع روح الإسلام والدول الإسلامية هي التي دفعت ثمنا باهضا للفاشية في حرب عالمية ليس فيها ناقة ولا جمل، وأستعمرت بعدها إستعمارا يتجاوز صفة وتعريف الأرهاب بكثير. ومع هذا لم يدعِ المسلمون أن الإرهاب والأستعمار كان مسيحيا! وعندما أحتل الصهاينة فلسطين، لم يقل المسلمون انه استعمار يهودي، لإيمانهم بأنه لا توجد علاقة بين روح الأديان ومكائد الشيطان! كما ان النظام الأيراني رغم حمى التسلح الملازم له فإنه غير قادر على أن يشكل خطرا جديا على النظام الدولي رغم انه يشكل تهديدا مباشراعلى منطقة الخليج العربي، وغير مباشرعلى الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة التي عصفت بسبحة الأتحاد السوفيتي السابق وجعت خرزه متناثرة هنا وهناك لقادرة ان تعصف بنظام الملالي كما يعصف إعصار بشجرة فيقلعها من جذورها.
الناتج المحلي الامريكي يعادل اكثر من (70) مرة نظيره الإيراني وحجم الأنفاق العسكري الأمريكي اكثر من نظيره الإيراني بما يزيد عن(110) مرة ناهيك عن أسلحة التدمير الشامل والقوة البحرية والجوية التي تمتلكها الولايات المتحدة لتي تجعل القزم الأيراني يلوي رقبته الى الأعلى ليعرف حجم المارد العملاق الذي يتحداه! وهذا ليس مدحا للولايات المتحدة، وذما للنظام الإيراني، ولكنها الحقيقة المجردة، كل طرف يجب أن يعرف مقدار حجمه، فلا يغالي فيما لا قدرة له عليه.
أن تبني إستراتيجية التوسع والهيمنة للكيان الصهيوني والنظام الإيراني جعل كل منها يسعى لبناء قوات مسلحة كبيرة وقدرات تسليحية متطورة قادرة على تنفيذ تلك الإستراتيجية وبنفس الوقت قادرة على ضرب أية قوة عربية يمكن أن تواجهها أو تعطلها أو تؤخر تنفيذها أو تشكل خطرا عليها، لذلك اندفعا كلاهما الى تطوير الصناعة التسليحية المحلية والذي تمثل في تقليل واردتهما من الأسلحة، مع العلم ان الكيان الصهيوني يعتبر متقدما من الناحية التقنية عن النظام الإيراني، فالنفقات التسليحية الكبيرة في الكيان الإسرائيلي لم تؤثر على النفقات الحكومية في بقية القطاعات فهي تعادل ما ينفق على الجوانب الصحية والتعليمية والخدمية، على العكس من النظام الإيراني الذي يعاني شعبه من الفقر والجوع والبطالة والتدهور الاقتصادي وانهيار قيمة العملة المحلية وتخلف القطاعات الصحية والتعلمية والخدمية نتيجة ارتفاع معدلات الأنفاق العسكري.
وفي الوقت الذي تمتص مصانع الأسلحة الإيرانية رحيق الإقتصاد الإيراني فإن مصانع الأسلحة الإسرائيلية التي يزيد عددها عن (180) مصنع وبقوى عاملة تقدر بحوالي (120) ألف عامل تدعم اقتصادها حيث انها تصدر من الأسلحة ما قيمته (15) مليار سنويا، وترفد عوائدها الصناعات الألكترونية والكهربائية وتكنولوجيا الإتصالات والمعلومات، كما انها تستفيد من المساعدات الخارجية التي تتجاوز (4) مليار سنويا، وهذا ما تفتقر اليه إيران. وفي الوقت الذي تشكل نسبة الأستثمار في الكيان الصهيوني 21% من الناتج القومي ويزيد على الإنفاق العسكري 10% فإن الأستثمار الإيراني يبلغ حوالي 16% من الناتج المحلي ويزيد عن الأنفاق العسكري 1%.
لذلك فإن الكيان الصهيوني وايران يحتلان مكانة الصدارة في منطقة الشرق الأوسط بعد إنتهاء الحرب الباردة في برامج التسليح البري والجوي والبحري إنتاجا وتطويرا وتسابقا في مجال إنتاج أسلحة التدمير الشامل النووي والكيمياوي والبيولوجي وتقدر بعض مراكز الدراسات الإستراتيجية بأن النفقات التسليحية تتراوح ما بين 50- 100 مليار خلال فترة أقل من عشر سنوات، وفي الوقت الذي يعتمد فيه الكيان الصهيوني على الولايات المتحدة في مجال التصنيع الحربي فأن النظام الإيراني يستعين بجمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق والصين وكوريا الشمالية. ولاشك إن جزر النوايا الحسنة وتبادل الثقة وعلاقات حسن الجوار أمام مد الأزمات وتصعيد التهديدات أدى الى إغراق المنطقة بالأسلحة. فقد لحقت المملكة العربية السعودية والامارات العربية بركب سباق التسلح لمواجهة الخطر الإيراني، الذي يهددهما عبر التصريحات الصادر من قبل كبار المسؤولين الايرانيين. لذا يمكن الجزم بأن النظام الإيراني والكيان الصهيوني هما من أطلق مارد التسلح من قمقمه في المنطقة العربية وهما القادران على إعادته الى قمقمه من خلال سياسة التعقل والتهدئة والإبتعاد عن سياسة التهديد والإستفزاز. لقد بانت حقيقة نظرتهما التوسعية في محاولة الهيمنة على المنطقة بعد الغزو الامريكي للعراق، وإزادت شراهيتهما وسال لعابهما في ظل غياب العراق عن الساحة فإستفردا بالمنطقة.
لقد أدى تسابق التسلح الصهيوني الإيراني الى تصاعد وتائر الفزع والتوتر والأزمات في المنطقة بما فيها الدول العربية التي ترتبط بإتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني. وان كانت تلك الأتفاقيات تبعث القليل من الإطمئنان بين أطرافها، فإنه لا توجد عوامل تؤمن الأطمئنان من النظام الأيراني بل العكس من ذلك فان التصريحات التي يطلقها الزعماء الإيرانيين بين آونة واخرى توقظ المخاوف العربية وتشحن بطارية التوتر كلما خفت قوتها، ناهيك عن تشجيع النظام الأيراني للحركات الأنفصالية والمتمردة في العديد من دول المنطقة كالعراق واليمن وسوريا.
لاشك ان هذه التهديدات والإستفزازات الاسرائيلية ـ الايرانية وما رافقها من سباق تسلح جعلت عامل التوجس والترقب يخيم على دول المنطقة مما أدى بالنتيجة الى توجهها أيضا لبناء ترساة تسليحية لمواجهة هذه التحديات. وفد أدى ذلك الى وضع عصا في دولاب التنمية الأقتصادية لتلك الدول فالنفقات العسكرية الضخمة أثرا تأثيرا كبيرا على الإنفاق التنموي وأخرت الكثير من مشاريع البناء والتعمير وتعدته الى قضم الإنفاق على القطاعات الخدمية.
وتشير إحصائيات التنمية البشرية بأن دول الخليج تنفق ثمانية أضعاف ما تنفقه إيران على الأسلحة وان هذه النسبة مرشحة للزيادة بفعل تزايد التهديدات الإيرانية المتتالية لدول الخليج وسباقها النووي والمناورات العسكرية التي تجريها في الخليج العربي. فقد بلغ الأنفاق الحربي الإيراني للفترة من 1983- 2002 ما يقارب (137) بليون دولار مقابل(533) بليون دولار للمملكة العربية السعودية، وتشير احصائيات البنك الدولي الى أن متوسط إلانفاق العسكري للبحرين يبلغ ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأوربية والذي تبلغ نسبته حوالي5.5% لنتاجها المحلي! ويبلغ الأنفاق العسكري في الأمارات ما يزيد عن 4% من نتاجها المحلي الأجمالي، والسعودية 13%.
يلاحظ ان الكيان الصهيوني ونظام الملالي يقوما بين فترة وأخرى بمناورات عسكرية لغرض بث الرعب والفزع بين دول المنطقة وزيادة هاجسها الدفاعي فهي رسائل تهديد ووعيد لدول الجوار، ومع كل مناورة إيرانية تعلن ايران عن توصلها الى سلاح مدمر جديد ففي المناورات التي أطلقت عليها تسمية ( ضربة ذو الفقار) واختيار هذه التسمية واضح لأغراض دعائية كشفت عن إنتاج مقاتلة محلية الصنع توازي بكفائتها طائرة (F18 ) كما أدعت، وفي مناورة ( الرسول الأعظم) أعلنت عن إنتاج صاروخ أرض- بحر سريع المناورة وقابل على الإفلات من الرادارات سمته (الشبح), وفي مناورة أخرى قرب مضيق هرمز أعلنت عن أنتاج صاروخ (كوثر) متوسط المدى. وأخيرا بعد مقتل المقبورين الجنرال سليماني وابو مهدي المهندس زعمت في شهرآب 2020 انتاج صاروخين يحملان إسمهما، علما ان هناك شكوكا حول كفاءة صواريخها وطائرتها، فأغلبها قديمة ومحورة، وتبين عدم دقتها عندما وجهت ضربات صاروخية الى القواعد الامريكية في العراق، فقد سقطت بعضها على مدينة حديثة العراقية، والبقية على محيط القواعد الامريكية، ربما الصاروخ الوحيد الذي حقق هدفه، هو الصاروخ الذي أسقط الطائرة الاوكرانية.
المقالة القادمة هي الأخيرة في هذا المبحث.
علي الكاش