23 ديسمبر، 2024 2:50 ص

أوجاعٌ نثريةٌ / حبقٌ مضافٌ للقلب

أوجاعٌ نثريةٌ / حبقٌ مضافٌ للقلب

(كلُّ شيء يفلت مني. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي؟ الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟!!)
هذا مقطع للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا مؤلف كتاب اللا طمأنينة.. فيرناندو عاش وهو يحلمُ وكتب أيضا بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. هو في نظري من أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد.
*****
أتناول رواية السلالم الرملية لسليم بركات.. المركونة كغيرها في مكتبتي منذ سنوات في عصر النت والفيسبوك.. يخيَّلُ لي في البداية أنني أقرأ شِعراً.. سرعان ما أتراجع ثمَّ أقنعُ نفسي أنَّ ما أقرأه لا يتعدَّى أن يكون نوعاً حديثاً من القصَّةِ أو ما يشبه يوميات شعرية تأملية.. عجيب أمر هذا الكردي المدهش الذي يمزج الرواية والقصة والشعر والأسطورة والتاريخ بخفَّةِ ومهارةِ ساحرٍ في نصِّ مفتوحٍ يستعصي بكثافة لغته البريَّة الجامحة والذاهبة في شمس الماضي على أي إطار أو جنس أدبي.. هذه الرواية تشبهُ الى حدٍّ ما الطائر الملوَّن الغريب الذي يحلِّق سعيداً في السماء فإذا حاولتَ أن تسجنه في قفص فهو سرعان ما يتلاشى ويموت.
*****
كانَ النصُّ الأدبي قبلَ إغراء الشاشة الزرقاءِ يتكوَّنُ بهدوء في الظلِّ أو ظلامِ الحالة الشعورية وهذا ما يتيحُ لهُ أن يتنفَّس على مهلهِ وأن ينمو رويداً رويدا تماما كزهرةٍ على شرفةِ المخيِّلة.. كانت المساحة الفاصلة بينه وبين الرغبة العارمة للنشر تتيحُ له ولو قليلا من الوقت كي يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الحريَّة والتموِّج واللمعان في فضاء من البحث عن الجمال وفي فسحةٍ نقبض فيها على خفقة الروحِ الهاربة واصطيادها لتوظيفها في مكانٍ ما من القصيدةِ.. في محاولات إعادةِ الكتابة والتشذيب والمحو.. كانت فنيَّة الحذف هي يدُ الشاعر الخفيَّة التي تكتبُ القصيدةَ أو النص الأدبي.. حينها كانت الكتابة لغرضِ الكتابةِ فقط ( بالنسبةِ لي على الأقل ) وأيضا لإزاحة صخرة ألم وجوديٍ عظيمٍ عن القلبِ.. كنتُ أؤمنُ بمسألةِ الإجادة حتى لو إستغرق العملُ على كتابة قصيدة واحدة شهوراً طوالاً وأعتبرها الهدف الأسمى الوحيد الذي يتمايلُ في الذهنِ.. أصبحت الآن السرعة وإغراءُ هذه الشاشةِ الزرقاء بنشر أيِّ نصِّ فارغٍ من قيمتهِ الأدبية وباستعجال قياسي محموم هي ما يتحكمُّ بأيادي الشعراءِ الخفيَّة وبأنفاسهم اللاهثة أبداً إلى ضوءِ آخرِ النفق.
*******
حيفا أقرب إلى قلبي مني..أقرب من نبض القلب.. كل شيء أحبه في هذه المدينة.. كل شيء.. أزقتها.. شوارعها.. رائحةَ بحرها.. صعلكتي البريئة في مكتباتها وجامعتها.. كأنَّ لها روحاً تجذبني إليها.. هيَ لا كالمدن.. فيها شيءٌ ما من المرأة العصيةِ..عشت فيها عام 2000 أجمل أيام حياتي.. أنا مدينٌ لهذا العام طيلة حياتي لأنه أمدَّني بالخميرةِ التي تلوِّن أخيلتي بألوان الطيفِ.. كلُّ شيءٍ فيها يذكرني بلوركا ومحمود درويش والأشعار البحرية والطيور الزرقاء.. أحب وردة ليلها التي تجرح الروح من غير أن تمسها.. أحب نهارها البنفسجي.. حتى خصوماتي الصغيرة مع الأصدقاء فيها أحبها. أنا في حالة عشقٍ دائمٍ معها. أجملُ الأشعار تلك التي كتبتها في ظلِّ هذا العشق.
*********
الأوتار المائية التي تسكنُ قلبي لا تهدأُ أبداً.. والسماءُ التي تسكنني منذ الصغر لا تريدُ الخروجَ من جسدي المشتعلِ بنارٍ باردةٍ لأستريحَ لحظةً واحدةً.. ماذا أفعلُ إذن؟
********
بنفس الرغبة القوية بالكتابة حدَّ الإيمان يستمرُّ الشاعرُ المجهول بالانسحابِ أكثرَ إلى الظلِّ أو إلى ما وراءَ الستارة.. كلهم يقولون هذا.. أصدقاؤه .. إخوته .. أهل بلدهِ.. جيرانه الكثر.. منذ أن تلطَّخَت أصابعه بالحبر السماوي الغامض.. ولا شيء يقولهُ أو يبرِّر عزلته الاختيارية بهِ.. لا شيءَ يفعلهُ سوى محاولةِ لملمةِ هذا الرذاذ الذي يتطايرُ عن جذوةِ روحه.. بتأملٍ مجروح..الكتابةُ فقاعةُ حلم لا تقلُّ سعادةً عن عزلتهِ التي ارتضاها لنفسهِ.
*******

صديقي الذي يشبه طائر الدوري والذي قاسمني في أعوامٍ خلت وردَةَ الأخوَّة وبرودةَ كانون وخبز الصباح المغمَّسَ بالسعادة والغبطة والنكات الطازجة.. يكبرني بعامين من الزرقةِ والصفاء والتذمُّر من الصقيع والموتِ الشتائيِّ الحزين وطيران روحهِ على أجنحة عاصفة ثلجية.. مات كما لا يشتهي.. في أوجِ الصقيع.. هو الآنَ يجلسُ في ناحيةٍ ما من السماءِ متحوِّلاً إلى أقحوانةٍ ثلجيَّة مشتعلة.
********

جمالهنَّ هو الشيءُ الحقيقيُّ الوحيدُ الذي سوفَ يقهرُ الموتَ..
********
في يناير تحطُّ على القلبِ ذاتُ الأغنية التي سمعتها قبل عام كفراشةٍ من زنبق.. وينتابني إحساسٌ غامضٌ ورغبةٌ بيضاءُ بمشاهدةِ فيلم يسوع المسيح للمرَّةِ الألف على اليوتيوب.. وقراءةِ شعرِ أبي تمَّام وكتابات حسين البرغوثي أكثر من أي وقت آخر في السنة..
في ينايرَ تفلتُ أجملُ القصائدِ من يدي في النهار وأرجعُ في المساء محمَّلاً بالنثرِ الركيك..
في ينايرَ تجتاحني شهوةٌ للبكاءِ من دونِ سببْ..
ربما في هذا الشهر تسافرُ فراشاتُ جسدي نحوَ حدائق الجنوب.
**********

من كثرةِ الدموعِ التي ذرفتها أصابعُكِ الرقيقةُ نبتتْ في القلبِ عاصفةٌ كهربائيةٌ لا تهدأُ أبداً.
**********
أجمل اللحظات تلك التي تخلعُ فيها عن منكبيك أعباء القصيدة وأنت تتأملها بصمتِ عاشق.
*********
النقد العربي المصاب بعقدة الخوف ورقصة الدراويش لن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما دامَ ينظرُ إلى الخلفِ أو إلى الأسفل بعدم ثقة ويجتر لغةً جافةً حول أسماء مكرَّسة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. بعكس النقد الغربي الرائي إلى الأعلى والذي يحترف الطيران العمودي والبحث الدائم عن أسماء جديدة.. المشكلة في الناقد العربي تكمن في ظنِّهِ أن دراسته (الزائدة ) عن الشاعر الفذ والرائد الكبير الذي رحل قبل عشرات السنين والذي تناولت تجربته مئات الكتب والأبحاث والدراسات النقدية ستوصله ذات يوم إلى نوبل للأدب.
**********
في كلِّ مرَّة يجتاحني فيها عطرُ الروزا أوقنُ أنَّ للعطر روحاً من أقحوان الغيمِ الخفيف. من قالَ أنَّ للنباتاتِ العطريةِ رائحةً فقط؟ وإلا فما معنى أن أنسى مدينة كاملةً زرتها ذاتَ صيف وأتذكرَ فقط عطر نبتة الروزا اللاذع.. العميق؟ ما معنى تأريخي لفترة من طفولتي برائحتها التي تشبهُ جيِّداً رائحة الحب الأوَّل؟ ما معنى أنني لا أنسى امرأة واحدة ليديها رائحةٌ تشبهُ رائحة عطر نبتةِ الروزا التي كانت تنمو في زاوية من زوايا حديقتها المنزلية وفي حديقةِ روحي معاً؟ لعلَّ هذه النبتة العطرية تركت بصمتها بقوة موجعة في ذاكرتي وفضاء قلبي وعلى مسامات يديَّ.. كما لم تتركهُ أيُّ نبتةٍ أخرى.
**********
بما أن الفيسبوك يشبه الى حد كبير جدا ما نطلق عليه في اللهجة العامية ( ديوان عربي) يجمع إخوة أو أصدقاء لا (أعدقاء) فأظن أنه يجب أن يسود جو من احترام رأي الغير أو حرية التعبير الشخصي.. ما دمت أنا ألتزم باحترامي لرأي من يختلف عني في المورد والمشرب والفكر والطبع والدين فالواجب أن يبادلني غيري نفس الشعور.. لا أحصر كلامي في رأي نشرته مرة عن شاعر أو ملك مات أو حتى إنسان صعلوك.. بأي حق تجد من لم تشعر بوجوده أو تعرف أنه صديقك في صفحتك منذ أكثر من سنتين ونصف يحتج على منشور شخصي لك لأنكترحمت على فلان وقلت كلمة حق في علان..؟ لا يهم … المهم أن نتعلَّم كيف نحترم خصوصية الآخر.. أقول هذا الكلام لأنني لم أجرِّح ولو مرَّة واحدة أصدقائي الذين يختلفون عني. لم أدعُ صديقي الملحد إلى الإيمان ولم أعاتب صديقي الآخر الذي كان مهووسا بلغة من ( الزنار وتحت) في أغلب منشوراته والأخيرة التي ذهبت مع الريح عندما لم يعجبها نشري لأغنية من الراي المغربي منذ مدَّة طويلة.. نسيتُ اسمها ورسمها.
**********
الرواية هي حديقة القصيدة الخلفية وماؤها اللا مرئي.. أجمل الأشعار تلك التي كُتبت تحت تأثير الروايات العظيمة.. وفي ظلِّ قرائتها.. يستطيع أيُّ شاعر في لحظة اعتراف أن يسمي كلَّ تلك الروايات التي كتبَ بفضلها أجملَ قصائدهِ.. بالرغم من أنَّ الرواية في أجمل تجلياتها المتوهجة لغةُ الوعي.. بينما القصيدة تعبيرٌ عن حلم فضفاض بلغةِ اللا وعي.
*********
“أنا نفسي لا أستطيع أن أقول ما أفكر فيه بصراحة.”
اذا كان الشاعر أدونيس يقول هذا الكلام.. فما الذي تستطيع أن تقوله طبقةُ الشعراء المسحوقين والمغيَّبين والمهمَّشين والبائسين ومن لا بواكي لهم؟

*******
اليوم قرأت على نفس واحدٍ رواية (ورَّاق الحب) للسوري خليل صويلح.. لم أقرأ في الشهور الأخيرة رواية حابسة للأنفاس مثلها.. تقرأها كما لو أنك تحلِّق في فضاء الغواية ودهشة المجاز وعبق الشِعر.. رواية مكتوبة بحذق لغوي عالي المستوى.. مفعمة بروائح الحب وممجدة لفلسفة الجسد بلغة تبلغ بجماليتها حدَّ القداسة.. أعجبتني جدا.. هي واحدة من أجمل الروايات العربية في رأيي.

*********

يقول الشاعر السوري الجميل نزيه أبو عفش: الله قريبٌ من قلبي
وأقول: أنا قريبٌ من حبي.. ذلك الحب الذي يشِّكل لي أجمل توازن روحي في الحياة حتى ولو كانَ حلماً ناقصاً..

*********

كم أُشفقُ على أشباه الشعراء.. من أينَ يأتون بكل هذه الركاكة يا الله.. ولا أحد منهم لديه الجرأة والصدق ليقول لنفسهِ (ليس للغيرِ) أنه شاعرٌ فاشلٌ..؟ قصائدهم لها طعم الكاوتشوك الممضوغ.. ارحموا الفضاءَ الذي يغصُّ بها.. نريدُ هواءً جبليا نقياً.

*********
بيتان من الشعر الهجائي المرتجل.. استوحيتهما من بيت للشاعر الأردني الكبير حيدر محمود : يا طيب القسمات يا شيخ الحمى.. إنا نحبك قائدا ومعلما
يا داعشاً في الأرضِ ليسَ لهُ سما
يا فاحشَ القسماتِ يا نذلَ الحمى
أمسِ انتحرتَ بطعنةٍ مسمومةٍ
وحفرتَ قبرَكَ وانتبذتَ جهنما
********
قال لي أحد أجمل الشعراء منذ ربيعٍ بعيدٍ أن أهم حاسة يمتلكها الشاعر هي حاسةُ الشم.. ليس لأن باستطاعتهِ أن يلتقط بأنفهِ أخفى تلك الروائح الزكية التي تنبعث من جميع الفصول والنباتات والمدن والرياح واللحظات فحسب.. بل لأنه وهذا الأهم يستطيع أن يتنسَّم عبقَ الأنوثةِ الغامض الذي يبعدُ عنهُ مسافات ضوئية.. ابتسمتُ.. فردَّ عليَّ بقهقةٍ عذبه: ربمَّا جعلَ الله للشاعرَ خياشيمَ غير مرئيَّةٍ في قلبهِ كما تلك التي للأسماك. كأنه يقصدُ أن الشاعر ليسَ إلى سمكةً عمياءَ تخفقُ في ماءٍ أنثوي.
*********
في آذار فقط تهدأ ثورة دمك العاطفي.. تصادف سيدةً بجمالٍ حزين وعينين من عسلٍ فتقولُ لها كم أن فمها جميلٌ وبأنك لا تعرف كيف تكبحُ نحلاً هائجاً حولَ فمكَ يشتهي تقبيله.. لا إضاعةَ لوقتٍ في حديث عن عطور ساحرة أو حالة طقس أو ما شابه.. ربما لو كانت دون الثلاثين حتما ستعجب بمجاملاتك التافهة.. ولكن لا شيء يثيرها الآن غير الصمت ونظراتك الحزينة التي التقت بحزن عينيها الذاهب إلى أقرب كوكب.. هي بمنديلها الكستنائيِّ في نظرك أجمل من كلِّ جميلات هوليوود.. وأنت شاعرٌ منسيٌّ في ذاكرةٍ ما..
**********
كلما أقرأ منشورا لامرأة تشكو لعنة زواجها وظلم زوجها أو المجتمع لها وبؤس حياتها وهي لا حولَ لها ولا قوَّة أحس كأن روحي تتمزَّق وأن غيوم دموع كبيرة تتجمع في عينيَّ من وقع مفارقة واقعية كبيرة بين ما تقاسيه امرأة ما قُدِّر لها أن تعيش في الجانب المظلم وبين امرأة أخرى في الجانب المضيء أراها كلَّ لحظة متحررة جميلة قوية واثقة بنفسها وبجمالها ومستقلة شخصيا وماديا وهي قادرة أن تسحق غرور أكبر رجل يتربص بها بكعب نعلها ان أرادت..
مشكلة بعض المجتعات التقليدية ليس في أنها لم تفهم مشاعر الأنثى فحسب.. بل لأنها تتوهَّم أن بامكانها أن تبني علاقة ناجحة بين رجل وامرأة لا شيء فيها من التضحية والمساواة والمحبة.. والايمان بحرية الآخر..
**********
سرعان ما يختفي زهر اللوز.. يذوب أو ينطفئ.. ولكنه يتوهج في قلبك الى الأبد.
*******

وأنتِ تشربينَ قهوتكِ السماوية.. لم تكن شمس الربيع سوى نادلتكِ الجميلة.
********

ماذا سأجني من شوبنهاور ونيتشه وكيركغارد وسارتر وكامو في هذا الربيع العاشق؟
ما ينقصني الآن هو شعر الحب الصافي. وقراءة رسائل جبران لمي زيادة وكافكا لميلينا وغسان كنفاني لغادة السمان ونزار قباني لبلقيس ولويس أراغون لإلزا وخليل حاوي لديزي الأمير وبابلو نيرودا لماتيلدا..
أحتاجُ إلى جهدٍ وطاقةٍ هائلين (لا أمتلكهما الآن) لتذويب قراءات فلسفية ووجودية وجمالية في القصيدة التي سأكتبها لكِ ذاتَ يومٍ ولكنك تصنعينَ قصيدتي على طبقِ رقصتكِ الباذخة بهدوءِ وقدرةِ ملاك.. وأنتِ ترقِّصينَ كل الأغاني الحزينة.