18 ديسمبر، 2024 5:58 م

أهمية اللغة الرمزية في رواية “القضية”

أهمية اللغة الرمزية في رواية “القضية”

لا يخفى على الكتاب والأدباء الدور الذي تلعبه اللغة الرمزية في تصوير رواية “القضية” لفرانز كافكا بل هي تكاد أن تكون مثال رائع على عمل فني كتب بهذه اللغة ان صح التعبير . ولكي نفهم هذه الرواية العالمية يجب أن نقر وكأننا نستمع الى قصة حلم طويل معقد تجري فيه حوادث خارجية في المكان والزمان ,هي في الحقيقة ليست حوادث خارجية بقدر كونها تمثل أفكار ومشاعر الحالم ,والحالم هنا بطل الرواية “ك”.
تبدأ الرواية بجملة فيها شيء من الغرابة : ” لا بد أن يكون أحدهم وشى بيوسف ك , إذ أنه من دون أن يكون فعل شراً ألقي القبض عليه ذات صباح “. وتصطنع القصة الصريحة مفهوم التوقيف . أما المعنى الرمزي الذي يهمنا هنا فهو الحبس . ويشعر ك في هذه الحالة أنه معوق ومحاصر ..
ومن هنا تبرز اللغة الرمزية أكثر عندما تحاكي صوت الضمير الإنساني لبطل الرواية الذي يمثل شخصية المراقب الذي يشغل في تسلسل رتب المحكمة مكانة عالية . يزداد الصوت وضوحاً ويطرح عليه ك كل الأسئلة الممكنة , فبأي تهمة هو في الحقيقة متهم؟. وفي إجابته على ذلك يبدي المراقب ملاحظة تتضمن أهم الايضاحات و الاستكشافات التي استطاع ك أن يطلع عليها وهذا ما يحدث لكل إنسان يجد نفسه في مأزق ويبحث عن عون . ويقول “المراقب” في الرواية :” ولكنني إذا لم أجب على أسئلتك أيضاً فأنني أنصحك على الأقل بأن تقلل من تفكيرك بنا وبالشيء الذي سيحدث لك , والأحرى أن تفكر بنفسك “. ولا يفطن ك الى ما يرمي إليه “المراقب” في قوله هذا , ولا يفطن الى أن المشكلة قائمة في ذاته وأنه هو وحده قادر على أن ينقذ نفسه . أما الحقيقة أن لم يستطع أن يمتثل لنصيحة المراقب فهي دليل على أنه يجب أن يسلم بالهزيمة في آخر المطاف .
وينتهي المشهد الأول بملاحظة أخرى للمراقب تلقي مزيداً من الضوء على نوع الاتهام وسبب القبض عليه إذ يقول :” أنت مقبوض عليك , وبكل تأكيد , على أن هذا لن يمنعك من أن تمارس وظيفتك !”.
ومع أنه سمع صوت ضميره , لكنه لا يفهم نفسه أو لا يريد أن يفهم نفسه . وبدلأ من القيام بالمحاولة ليفهم السبب الحقيقي للقبض عليه يتوخى أن يتحاشى كل نوع من أنواع المعرفة , وبدلأ من أن يساعد نفسه بالطريقة الوحيدة التي يمكن أن تساعده بأن يعرف الحقيقة . ويحاول أن يتغير فإنه يبحث عن مساعدة حيث يستحيل عليه إيجادها بحكم شخصيته التي اعتادت أن تتلقى من الآخرين دون أن تعطي , ويؤكد دائماً براءته في كل شيء ويأمر الصوت الذي أسر له بأنه مذنب بأن يلزم الصمت .
لكنه اعتاد على في حياته الوظيفية على الطاعة والتنفيذ , وبالتالي نسى ضميره الإنساني الذي يمثله شخصية المراقب ورجل الدين في الكنيسة , الذي تصوره الرواية تصويراً رمزياً . أما الضمير المستبد فتمثله المحكمة والقضاة والمستشارون والمحامون الفاسدون والآخرون الذين لهم علاقة بالقضية .
ويقوم خطأ ك في الرواية على أنه يسمع صوت الضمير الإنساني , لكنه مع هذا يظنه بالخطأ صوت الضمير المستبد , كما أنه يدافع عن نفسه أمام السلطات التي ادعت عليه بأن يذعن لهم أو يثور عليهم بدلاً أن يقاتل من أجل نفسه باسم الضمير الإنساني .
وعند نهاية رحلته يقترب من الحقيقة أكثر من أي وقت آخر . فهو هذه المرة يستمع الى صورة ضميره الإنساني الذي يمثله رجل الدين في الكنيسة الذي كان يقف أمامه بهدوء على المنبر إذ قاله له : ” أنت متهم” . ليتبين رجل الدين فيما بعد بأنه كاهن السجن المعاون .
كما سأله رجل الدين :” هل تدري بأن قضيتك لا تبشر بخير “.
فرد عليه ك بالقول :” يبدو لي الأمر هكذا أيضاً . لقد بذلت كل الجهود , ولكن الى الآن بدون نتيجة “.
ثم سأله الكاهن : ” وكيف تتصور نهايتك ؟”.
قال ك :” سبق لي أن فكرت في الأمر يجب أن ينتهي نهاية طيبة . والآن يساورني شك في ذلك أحياناً. ولست أدري كيف ستؤول الأمور . فهل تعرف ؟”.
فرد الكاهن : ” لا . على أنني أخشى أن تنتهي نهاية سيئة . فالناس يحسبونك مذنباً . وقد لا تخرج قضيتك عن نطاق محكمة وضيعة. ويرى الناس بصورة مؤقتة على الأقل ذنبك مؤكداً”.
قال ك :” لكنني لست مذنباً , إن هذا خطأ . أنى للمرء أن يكون مذنباً , فنحن كلنا هنا بشر , أحدنا مثل الآخر “.
ويقول الكاهن :” هذا صحيح , ولكن المذنبين يتكلمون هكذا عادة “.
وهكذا يستمر الحوار الطويل بين ك ورجل الدين الذي هو الآخر بمثل صوت ضمير ك الإنساني كما ذكرنا . ثم يكتشف بعد نهاية الحوار بأنها المرة الأولى التي اتضح فيها ليوسف ك كم كانت حياته جشعة متهالكة على الدنيا وفارغة وانها المرة الأولى التي يستطيع أن يرى فيها امكانية الصداقة والتضامن الانساني . ووقعت نظراته على آخر طابق من طوابق البيت الملاصق للمقلع . ومثلما يخفق ضوء شعاع , هكذا تباعد مصراعا نافذة هناك , إنسان ما ضعيف وهزيل يميل بجسده الى الأمام بهزة ويمد ذراعيه الى أبعد حد من أجل أن يستعطي . ومن كان هذا ؟ صديق ؟ إنسان طيب؟ أحد المشاركين ؟ شخص كانت نيته المساعدة ؟ هل كان بمفرده ؟ أكان هو الكل ؟ أكانت هناك بقية من المساعدة ؟أكانت هناك بقية من الاعتراضات التي نساها المرء ؟ ومن المؤكد أنه كان هنالك شيء من هذا القبيل . حقاً أن المنطق لا يتزعزع , لكنه لا يصمد أمام إنسان يريد أن يعيش . هنا تكمن أهمية الرواية التي تكشفها لنا بجلاء اللغة الرمزية . ولكن بقي سؤال واحد أين كان القاضي الذي لم يكن رآه قط في الرواية ؟ في المحكمة التي لم يكن جاء إليها قط ؟… لقد حاول ك طوال حياته أن يجد جواباً على هذه الأسئلة , لأنه في النهاية كان يسأل نفسه بغض النظر عن المراقب ورجل الدين أو بمعنى آخر , أن يترك آخرين يجيبون عنها . وفي تلك اللحظة يطرح أسئلة هي الأسئلة الصحيحة . والخوف من الموت , ليس غيره , يمنحه القوة ليفهم إمكانية الحب والصداقة , ويؤمن على نحو غير معقول أول مرة بالحياة في لحظة الموت التي كانت تمثل الجزء الأخير لهذا الحلم الطويل .