18 ديسمبر، 2024 7:00 م

أهمية العلم وفداحة الجهل به

أهمية العلم وفداحة الجهل به

على ضوء انتشار ظاهرة الاطباء المشعوذين
لا يختلف اثنان على الأهمية الفائقة للعلم الحديث في تحقيق رفاهية الانسان، فلولاه لما وصلت البشرية الى هذا المستوى من التطور التكنولوجي والمعرفي وتحسين حياة الانسان الصحية لدرجة يعيش فيها اليوم عامل او فلاح بسيط بمستوى أعلى من حياة امير في القرون الوسطى. وبدون العلم سنرجع الى ايام العصور الحجرية. ومع ذلك يبدو ان فئة قليلة من الناس تعرف من هم العلماء الحقيقيين، وما هو العلم الحديث، وكيف يعمل ويتطور، وما هي قوانينه الأساسية. واذا كان الجهل به شائع في الدول الغربية التي نشأ وترعرع فيها فما هو حاله في الدول النامية؟ لذلك لا غرابة أن نلمس عن كثب في هذه الدول جهل بالعلم وما ينتج عنه من اهمال وانحسار للسياسات التي من شأنها ان تساعد على توطين العلم الحديث وانتشاره وهيمنته على مفاصل الحياة بالرغم من اننا نشهد ونستورد نتاجاته من تكنولوجيا وعلاجات وادوية طبية واجهزة الكترونية وابنية حديثة في كل مدينة وقرية في هذه البلدان.

 

الجهل بالعلم حالة مضرة بالفرد والمجتمع على حد سواء، فإذا لم يعرف الفرد الاسلوب العلمي لا يستطيع ان يحكم على اهمية (او عدم اهمية) العلاج الطبي او الاكتشاف العلمي ولا يمكن له الفصل بين العالِمْ الحقيقي والعالِم الكاذب وبين العلم الحقيقي والعلم الكاذب (الخاطئ). ولهذا تكمن أهمية الوعي العلمي في المجتمع لمنع ادعياء العلم والطب من الكسب غير المشروع على حساب العامة من الذين يحترمون العلم والطب الحديث ويريدون الاستفادة من اكتشافاته الا انهم جهلة بطريقة عمله واسلوبه.

 

العلماء قديما كانوا فلاسفة طبيعيين ولم تظهر كلمة “Science” الا في عام 1840 بحيث ان كتاب اسحاق نيوتن حول الجاذبية والحركة والمنشور في 1687 كان عنوانه ” المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية “، ونيوتن كان بالنسبة له ولعلماء عصره فيلسوفا طبيعيا. ثم ظهرت كلمة الاضافة “-logy” لتعني مجموعة معارف، فإذا أضيفت إلى موضوع علمي أصبحت تعني “مجموعة معارف علمية”. وبسبب ترجمة المصطلحين اللاتينيين الى “علم” في العربية اختلط مفهوم العلم العربي الاسلامي القديم بمفهوم العلم الحديث واصبحنا نطلق على رجال الدين والباحثين في الهندسة والطب بالعلماء على حد سواء.  العلم الحديث يقوم بالأساس على التجربة والتخطئة (falsification) وبدونهما يصبح اعتقاد او عقيدة.

 

العلم (والطب الحديث كجزء منه) يحتاج الى اثباتات لكل ادعاء فيه، وان أي اعتبار لاي ادعاء بدون اثبات لا يتعدى كونه احتمال. أما العلم الكاذب فهو يقدم الادعاءات على كونها إثباتات صارمة بدون تقديم الاثباتات الكافية. الشئ الوحيد الذي تم اثباته في هذا المجال هو كون العلم والطب الكاذب عملية تجارية مربحة على حساب الذين يعتقدون بصحته. ولان عامة الناس لا يستطيعون التمييز بين العلم الحقيقي والعلم الكاذب يحقق بعضهم ارباحا مادية ومعنوية بترويج بضاعتهم او “اكتشافاتهم”.

 

الجهل بالعلم باهظ الثمن وشديد الضرر بالتقدم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع فهو يغشي العيون ويبلد العقول ويمنع الناس من اخذ القرارات الصحيحة في حياتهم ويمنح المشعوذين وأدعياء العلم قوة لخداع الناس، ويساعدهم في ذلك الإعلام الذي ينشر الأخبار العلمية المثيرة والمشوقة من دون التحقيق بصحتها.

 

من المؤسف انه كلما كان الادعاء اكثر اثارة  كمثل أكتشاف علمي خارق او دواء شاف لكل الامراض كلما حضا الادعاء باهتمام اكبر من قبل الاعلام وجمهور المتلقين. كتب لي استاذ جامعي انه يلاحظ في واجهات الصيدليات في العراق وخصوصا في بغداد لافتات حول العلاج بالخلايا الجذعية وانه شخصيا سأل صاحب احدى الصيدليات حول وجود خلايا جذعية للعلاج وهل يكتب الطبيب للمريض (روح اخذ خلايا جذعية من فلان صيدلية) فأخرج الصيدلي مرهم لا علاقة له بالخلايا الجذعية. والطامة تكون اكبر في مجتمع متخلف لان عدد الذين يصدقون الادعاء اكبر ولوجود عدد من الجهات التي تستفاد بصورة مباشرة او غير مباشرة من نشر مثل هذا الادعاء كما حصل في عهد البعث عندما ادعى احد مدرسي جامعة البصرة اكتشاف دواء لعلاج السرطان وحاول نشر بحثه في المجلات العلمية فرفض، وبالتالي نشره في صحيفة محلية غير معروفة حتى على نطاق العراق، وليجلب الإنتباه لنفسه ولبحثه سلك سلوكاً انتهازياً فسمى المادة التي ادعى أنه مكتشفها ب”بكرين وصدامين”. فاهتمت الحكومة البعثية بذلك العقار ونظموا له المؤتمرات الدولية . وقد نقل لي صديق طبيب كان يعمل في مدينة الطب آنذاك أن جميع المرضى الذين جرب عليهم الدواء قد ماتوا.

 

وقبل فترة طالعنا الاعلام (جريدة الصباح) بخبر تحت عنوان ” باحث عراقي يكتشف علاجا لانفلونزا الطيور والتدرن الرئوي” هذا في الوقت الذي اجتمع فيه علماء العالم في الاختصاصات ذات العلاقة في بكين لبحث الجهود الدولية في هذا المجال دون جدوى. ادعى الباحث العراقي أنه صاحب مؤسسة للعلم انه توصل الى علاج للكثير من الامراض بالاعتماد على عصير الليمون والتمر وحبة عين الشمس وراس الفجل وعصير خضار الشجر نوع السكلة ! هذا يحصل من دون اجراء اية تجربة طبية لهذه المواد النباتية على المرضى ولا حتى ظهور هذا المرض –انفلونزا الطيور- في العراق، عجبي كيف تأكد من نجاعة دوائه هذا حتى بدون تجربته على المرضى؟ لا توجد غرابة من هذا الادعاء في العراق فقد شهدت سنوات ما بعد الحصار تزايدا في عدد المدعين من اطباء وباحثين وسحرة ومشعوذين باكتشافات طبية او اختراعات او ادوية في كافة المجالات خصوصا تلك التي تمنح الشفاء للمصابين بامراض قاتلة لذا يلجأ بعض المرضى الميؤس شفائهم الى تجربة كل ما هو معروض في السوق من شعوذه او غيرها (كالغريق الذي يتمسك بالقشة عسى أن يرى نجاته فيها) . الا ان الغرابة تكمن في ترويج الصحافة والاعلام لمثل هذه الادعاءات من دون مراجعة علماء الطب والاخصائيين العلميين واخذ رأيهم في مثل هذه الامور. الحقيقة ان تصديق او عدم تصديق هذا الخبر ليس بالمهم بقدر ما انه يعكس عقلية غيبية سائدة في المجتمع العراقي وعدم قدرة على تفهم ما هو علمي وما هو غير علمي. والمقطع التالي (المضحك المبكي والملائم لان يكون مقتبسا من جريدة حبزبوز لا من جريدة الصباح) يمكنه من التمييز بين القارئ العلمي والقارئ “الغيبي”: ” يتم عمل العصير بعصر قطعة واحدة من الشجر مع قشرتها بعد تنظيفها بالماء فقط بجهاز عصر الجزر ويتم تناول نصف قدح من هذا العصير صباحا قبل الاكل مع امكانية تحليته بالسكر حسب الرغبة للحصول على الشفاء التدريجي وصولا بعد ذلك الى الشفاء التام من مرض التدرن”.

 

كتب الصحفي والكاتب عدنان حسين في جريدة المدى (العدد 3343، 20 نيسان 2015)  يقول (من محافظة الى أخرى ومن مدينة الى مدينة يتزايد يوماً بعد آخر عدد هؤلاء “الأطباء” الذين يحرصون على وضع لافتات كبيرة ملونة على واجهات “عياداتهم” وعلى أرصفة الشوارع العامة، يعلنون فيها انهم يعالجون كل الأمراض.. نعم كلها من دون استثناء.. إنهم – كما تدعي لافتاتهم – يعالجون أوجاع الرأس والبطن والظهر والساقين والأسنان، ومشاكل الأنف والاذن والحنجرة والرئتين والعقم والولادة، وأمراض الصرع والجذام والجرب والإسقربوط والسكري والضغط والبروستات والقلب والأمراض العصبية والنفسية ويفتتون حصى الكليتين.. بل إنهم يشفون أيضاً المرضى بالسرطان بكافة أنواعه!). ويذكر احد اصدقائي وهو طبيب نفساني متخصص (ان الأطباء مستاءين من هؤلاء المشعوذين ولكن موجة الشعوذة اصبحت وباءاً حتى بين المثقفين وصار بعض الأطباء أنفسهم يمارسون انواع الشعوذة لعلاج الأمراض. ووزارة الصحة تدعي بأن ليس لديها صلاحيات لضبط العيادات الخاصة. وهذا صحيح الى حد كبير حيث ليس لدينا في العراق قوانين تنظم ممارسة الطب والمهن الصحية بشكل حضاري).

 

اخيرا احب ان ابين للقارئ ان اكتشاف دواء جديد في العصر الحاضر يحتاج الى جهود مئات من العلماء والى ما يقارب بالمعدل عشرة سنوات من بداية البحث في المختبر الى انتاجه في المعمل وتكلف العملية بمجملها ما يقارب من نصف مليار الى مليار دولار، هذا بالاضافة الى ان نسبة نجاح أي اكتشاف علمي صميم في تحوله الى عقار ناجح تقل عن واحد في المائة. واحب ان الفت نظر القارئ الكريم الى دراسة سابقة نشرتها حول الموضوع ويجدها على الموقع: http://alakhbaar.org/home/2015/1/184245.html

*  مقالة معدلة ومنقحة اعتمدت على مقالة سابقة بنفس العنوان للكاتب نشرت في ايلاف بتاريخ 3082006 وعلى الرابط: http://elaph.com/Web/AsdaElaph/2006/1/123297.htm?sectionarchive=AsdaElaph