23 ديسمبر، 2024 8:57 ص

أهمية التعايش السلمي في العراق واثره على مؤسساتنا التعليمية

أهمية التعايش السلمي في العراق واثره على مؤسساتنا التعليمية

احتل تعبير التَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ (Peaceful coexistence) اهتمام واسع لدى العديد من المهتمين بعلم السياسة والاجتماع لما له من دور كبيرة في الحفاظ على وحدة و امن و سيادة الدول. هذا التعبير استعمل بكثرة خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة للدلالة على أن رغم فوارق نظاميهما يمكنهما أن يتعايشا دون اللجوء إلى الحرب.بمعنى اخر التَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ هو تعبير يشير الى حاجة خصمين او اكثر إلى التفكير في حل سلمي يرضي جميع الاطراف ويخلق بينهم جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ للعيش بسلام بعيدا عَنِ الحَرْبِ وَالعُنْفِ .
ان مفردة التعايش تعتبر من المفردات المهمة التي اشارت اليها الكثير من الاديان السماوية وفي مقدمتها الدين الاسلامي الحنيف الذي اشار في قواعده ومبادئه الى اعتبار هذه المفردة ضرورة بشرية، وسنة نبوية وعبادة ربانية للحفاظ على كرامة الإنسان,ومن الشواهد على ذلك قول رسول االله صلى االله عليه وسلم: “الناس بنو آدم وادم من تراب”. وقوله تعالى ” فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين”.اضافة الى ذلك اعتبر الدين الاسلامي هذه المفردة هي ضرورة ملحة لتواجد الافراد في داخل المجتمعات و هي بحد ذاتها ثورة لتوحيد المجتمعات… ثورة على الذات الرافضة للاخر , ثورة على الاخر الرافض للذات الانسانية .
منذ القدم, العراق واحد من الدول التي تميزت بتنوعها الطائفي والقومي والديني “سنة وشيعة وكرد وتركمان وصابئة وشبك وايزيديين ومسيح وغيرهم” فهذا التنوع اليوم بدلاً من أن يكون دافعاً قوياً باتجاه تحقيق التنمية المستدامة والرفاهية للمواطن العراقي أصبح يشكل تهديداً صارخاً لوحدته الوطنية,وكان وراء هذا التهديد جملة من الاسباب التي لعبت دورا فعالا في جعل مفهوم التعايش السلمي بين مكوناته شبه غائب إن لم يكن غائباً تماماً منها على سبيل المثال ,عدم الاستقرار السياسي والامني , دور الجماعات الارهابية المتطرفة المتمثلة بتنظيم داعش المجرم, غياب المؤسسات السياسية الموجهة لعملية التعايش السلمي, تداعيات التنوع الاثني المعززة للأعمال العدائية , غياب الثقة بين مكونات الشعب العراقي , هذه الاسباب بمجملها اثرت على التنوع الاثني في العراق وتركت شرخاً كبيراً في العلاقات القائمة بين ابناءه, مما أثر بشكل بالغ على مسار العملية السياسية في البلاد ، والتي انعكست بدورها بشكل سلبي على اداء مؤسساته التربوية والتعليمية.
المؤسسات التعليمية العراقية شهدت في الاونة الاخيرة وبسبب ضعف مفهوم التعايش السلمي, بعض التحولات السلبية التي اثرت على مكانتها العلمية , حيث ساد فيها المعيار الطائفي والقومي والاثني والفئوي واصبح هو الأكثر حضورا في العلاقة بين الاستاذ والطالب من جانب وعلاقة الطلبة فيما بينهم من جانب اخر , بالنتيجة ادى ذلك الى انتشار ظاهرة التمييز بين الطلبة والتي قادت الى تدني المستوى التعليمي ,ضعف قيم المواطنة,غياب الحوار الوطني ,هشاشية العلاقة المتبادلة بين الطلبة والاستاذ داخل الحرم الجامعي, غياب الثقة وتبادل الاتهامات بين الكادر التدريسي بالاضافة الى استقطاب العناصر الفاسدة وغير الكفؤة وغير المهنية في العديد من الجامعات .
ان التغيرات السياسية والاجتماعية تحتم على مؤسساتنا التعليمية جعل نوعية وجودة التعليم من أهم أولوياتها لانتاج كوادر متعلمة مستوعبة المسؤولية المدنية والسياسية.ولنتذكر انه من أسباب آلامْ الشعوب هو صراع أنصاف العلماء الذين تربوا بعيداً عن تربية ثقافة التسامح والحوار والتعايش السلمي. فالتعليم الجامعي هو مفتاح التكوين الفكري للطالب و هو أداة لانتاج وتنمية المواطنة وإكساب الطلبة قيم الولاء والانتماء,وبناءا على ذلك ان الاصلاح والتغيير الذي نتطلع له لمواجهة ما نحن به وما سنواجهه يحتاج منا العمل الكثير للوقوف أمام التحديات والممارسات المتطرفة لازالة التمييز بين ابنائنا الطلبة.ان التربية التي ننشدها يجب ان تكون عملية وقائية وتحتاج للمحافظة عليها, و هي تربية تتصدى لجميع أشكال العنف والتطرف لكي نعيش ونتعايش بسلام، فالطالب يحتاج الى التعرف على أهمية المعرفة واتقان المهارة وترسيخ قيم المواطنة منذ الطفولة فالطلبة بحاجة الى بعضهم البعض وحبهم لبعض فهذا احد أهم أهداف التربية. كذلك الطلبة بحاجة الى اعادة النظر في محتوى المناهج الدراسية وتطوير أساليب التدريس وادخال مسارات تعليم جديدة ذات جودة عالية, نحتاج الى تعليم يساعد الطلبة على اكتساب مهارات تساعدهم على مواجهة المشاكل والمواقف بصورة عملية وموضوعية بعيدة عن التطرف أو اللامبالاة أو التبعية، ونحتاج ايضا الى تعليم يعزز كفاءة المتعلم ليتقبل الرأي الآخر ويساعده على التعايش بسلام مع الآخرين ويكون قادراً على تحمل المسؤولية الاجتماعية وأن يكون التعليم أداة للوحدة الوطنية في مجتمعنا المدني.
ان هذه الاثار السلبيات التي سادت مجتمعاتنا التعليمية تتطلب من صناع القرار في مؤسساتنا التربوية و التعليمية اعادة النظر في البرامج التربوية والسياسات التعليمية, تكثيف الندوات والمحاضرات التي تشجع على خلق التعايش السلمي في الجامعات والمعاهد العراقية خصوصاً بعد ظهور الفكر التكفيري الارهابي ومحاولتة زرع الفتنة الطائفية والمذهبية والقومية والاثنية والعرقية من اجل ضرب اساسات التعايش السلمي داخل مجتمعاتنا, العمل على تبني استراتيجية وطنية لاشاعة وارساء ثقافة التعايش السلمي من خلال اشراك الاساتذة والطلبة في الجامعات العراقية في حوارات مفتوحة وذلك من خلال نشاطات لا صفية تطرح من خلالها القيم التي تؤكد على التعايش بين مختلف افراد المجتمع, توجية الجامعات العراقية العلمية والانسانية على اشاعة ثقافة التعايش السلمي في قاعات المحاضرات عن طريق مناهج حقوق الانسان المعتمدة كمقررات دراسية تدرس فيها فضلاً عن تشجيع طلبة الدراسات العليا في الكليات الانسانية في تناول موضوع التعايش في اطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير, كذلك التركيز على أهمية تبني وسائل الإعلام الجامعية بأنواعها وأشكالها المتعـددة للخطـاب المعتدل وحظر نشر أو بث خطاب التخوين والتكفير, نشر ثقافة الحوار بين الطلبة لمواجهة العنف والإرهاب الذي يستهدف الوحدة الوطنية وترسيخ فكرة أن الحوار مع الآخر تتطلب احترام التنوع الثقافي والديني والعرقي بالاضافه الى توجيه الطلبة إلى اعتبار الحوار معياراً أساسياً للتعامل مع الآخر.
بناءا على ما تقدم , إن مؤسساتنا التعليمية مدعوة من أجل ترسيخ قيم المواطنة الإيجابية إلى تعزيز ثقافة التعايش السلمي في البيئة الجامعية والمجتمعية، لكي نساهم في تكوين عقلية بصيرة تتجاوز الجمود والتعصب وأحادية الرؤية, فالتحرر من داء التعصب والتفرقة والنزعات العنصرية في مجتمعنا أمر مرهون بإذكاء عملية تعليمية شاملة واصيلة قادرة على توظيف مختلف الطاقات التربوية والجامعية في تعزيز بناء قيمي وروحي قوامه الحوار مع الآخر والتسامح معه، ومحاربة مفاهيم وقيم العرقية والعدوانية وبالتالي سوف يساهم ذلك في انجاح وتطوير العملية التعليمية في مؤسسساتنا الاكاديمية .واخيرا يمكن القول ان مؤسساتنا التعليمية المتعددة بأطيافها وألوانها الجميلة يتطلب منا وقفة حقيقية للتركيز على مفهوم التعايش السلمي ومن دونه سنكون متضادين يحارب بعضنا بعضا وهذه هي دوامة العنف الآكلة لكل ما هو نبيل فالمرحلة صعبة والمسؤولية كبرى والتعايش مطلوب ونحن اهلا للتعايش كي نرتقي بمؤسساتنا التعليمية الى مصاف المؤسسات التعليمية في الدول المتقدمة.