قراءة في رواية ( خيانة ٌ في تلافيفِ العقل ) لـ كريم عبدالله – العراق .
بقلم : د. باهر بطي
طبيب اختصاصي أمراض نفسية
بورتلاند , أوريغون , الولايات المتحدة 07/11/2021 .
جاهدت لأسابيع أن اكتب مقال بلغة تحاكي لغة كريم عبد الله في رواية “خيانة في تلافيف العقل”, وبعد أن خُيّل لي إني نجحت في فكّ أسرارها , قرّرت مسايرة كريم في الخيانة وأن اكتب هنا بما يُخيّلُ لي انه لغة علم النفس , فلا يلومنّي القارئ إن لم يجد ما يبحث عنه , في الأغلب ان كل قارئ سيدور في تلفيفة غير التي يدور فيها قارئ آخر ومن غير المؤكد بعد لّفات عديدة اننا سنلتقي عند رسالة كريم . الخيانات في تلافيف العقل هي استفزاز مطلق (وهذا هو المطلق الوحيد الممكن ايجاده) , اذ انها ثورة اللامطلق كما هي صرخة غضب على المطلق . “خيانة في تلافيف العقل” يمكن ان تكون الجزء المكمّل لرواية كريم “عنقود من الشيزوفرينيا” والاثنان يقفان كشواهد شامخة للفكر المستكهن لسر الوجود والسؤال الشكّي في اطار خيانة لمنطق أفلاطون الذي يقول (نحن مجانين إن لم نستطيع أن نفكر) بينما يثبت لنا كريم (نحن لا نستطيع أن نفكر إن لم نكن مجانين) ويستعير من فرناندو بيسوا ( الجنون وبعيداً عن كونه امراً شاذاً هو الشرط الطبيعي للكائن البشري/ ص 190) . بعد أن ينجح منطق الجنون في كشف جنون المنطق والحرية التي يمنحها الجنون للعقل ينطلق كريم في صراع الوجود مع العبثية ( كلنا مجرم حتى يثبت براءته وأن أصبحت بريئا صرت مجنون ) .! . السؤال الوجودي متوفر في كل زاوية وانت تدور في تلافيف التساؤل والإجابة تدور في تلافيف تخونها (ص 181 هل على الإنسان أن يثق بهذا العالم ) , ولم يُبقِ كريم حجارة لم يقلبها و( ينبش اجدادها ) وبالمناسبة من مُتَع الرواية هي التعابير العامية لتوثيق العقل العراقي . يمكن للقارئ الحذق ايجاد رسالة الانسانية التي يبشّر بها كريم ( المحبة الإنسانية هي الحلّ ) وخيانتها بالسؤال ( ولكن كيف وهناك من خطط العكس ) ويتكحّل الاستفزاز بتساؤل القارئ عمن خطط العكس .
كريم يجعل القارئ يعيش اللحظة داخل عالم ابداعه ليس عن طريق التفكّر فقط وانما بالحسّ ايضا . ينتقل القارئ الى هذا العالم في سطور مثل ( استراق السمع إلى الأشجار والعصافير ص14) , نقرأ في ص 325 دقّة مذهلة في استخدام الحواس الخمس في وصف التدخين وفي ص 247 وصف لوقع تساقط المطر. ويرتقي الحسّ الى مستويات متعالية للحسّ الجمالي والرومانسي المتداخل مع الاحاسيس الشبقية فنقرأ في ص 301 ( قميصك الوردي يحمل عطر المصالحة مع الجسد ) , وعلاقة الجمال بالرغبة فيذكّرني بنزار قباني في ص 342 وايضاً (ص 323 تتساقط ذنوبي كلما دنوت من محرابك ويصيبني الخرس إذا رمقتني عيناك , فلا أدعية تستنجدها صلواتي مستشفعة بها كل شيء فيك يأخذني إليك ). وتتصاعد الاثارة الشبقية مع تصارع الرغبة مع العقيدة فيستثار (جواد) ليقول ( إبنة الكلب كم هي جميلة ومثيرة أستغفر الله .! . ), ويستمر كريم بالإثارة فنقرأ في ص 140-141 كمثال ما يصلح لمشهد خلاعي سينمائي .
رغم كل التلافيف التي تدور في كرة الخيانات تبقى مكانة الجنون محفوظة إذ يؤمن كريم ان ( دعوة المريض صادقة ) لأنه نموذج البراءة . ويحفظ كريم للجنون هيبته في عالم العشق فيصف جنون العشق الذي حمله ( المريض المجهول الهوية ) لطبيبة الأسنان , لكن سيبقى القارئ في حالة التشوق والاثارة عندما يتركه كريم معلّقاً مع التساؤل هل قتلها المجنون أم انتحر ويريد أن يحفظ للمجنون مكانته عندما يسأل (ماذا فعلت؟ ص 355).
تستمر الخيانة بكشف المستور في الأنا سواء في الجزء الواعي أو اللاواعي منها . وتمثل (نوال) في ص 362 دور سفيرة المرأة المكبوتة ورفض قاعدة ( قوامة الرجال ) و( والنساء قاصرات ) التي صارت وسيلة لممارسة عنف الرجال ضد النساء . يملأ كريم الرواية بأمثلة على التناقضات الاجتماعية الخائنة للقيم الى درجة اعطاء العذر لممارسة الدعارة طالما ان ( المصلحة فوق كل شيء ) او مثال الشهوة لدى المدير في صفحة 330. وتتعدد الامثلة على الازدواجية في الشخصية العراقية بما في ذلك ايجاد العذر السياسي للسقوط الأخلاقي (ص144). ولكن التغيير يصعب جداً عندما يغرق العقل الجمعي في منافقة لقيم عليا كالدين والوطن , ففي صفحة 297 حوار حول رفض او قبول مساعدة من موظف منظمة دولية لكونه مسيحي , وفي صفحة أخرى عاملة تقول ( الله خلّصنا من الطبيبة الصبيّة …..وجاءنا طبيب مسلم ) , والايغال الجمعي والفردي في قمع واضطهاد الاقليات الدينية فيقول ( ممرض ) عن الطبيبة الصابئية ( كلما ذهبت الى هذه الطبيبة…اغتسلت غسلة النجاسة ) , ويصف كريم معاناة الطبيبة منذ طفولتها في صفحة 328, ويتناقض العقل الجمعي مع حقيقة الدين المتسامحة رغم ( كثرة الجوامع ) .
في مجموعة أخرى من التلافيف يستعرض كريم الاحوال السياسية بما هي مسببات ونتائج في الوقت ذاته . الديمقراطية بحاجة لتغيير نفس اجتماعي ويعطي كريم الدليل من خلال مجموعة التناقضات ( تلافيف الخيانات ) التي تستعرض الموقف السياسي في ضوء التناقضات النفس اجتماعية , فيستذكر المعاناة مع قمع نظام صدام حسين كما في صفحة 143 مثلاً ثم ينقلنا الى معاناة ما بعد سقوط ذلك النظام في 2003 فيقول ( كان مستغرباً كيف في ليلة وضحاها تبدلت وانكشفت نفوس ووجوه . !! ص 266) . وينقلنا كريم بين صورتي ( الاجتماع الحزبي ) واجتماع ( لجنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ونكتشف بينهما حقيقة ما لم يتبدل . سقوط بغداد تحت الاحتلال وسقوط نظام صدام وقيام نظام جديد لم يغيّر الصورة بل تعمّقت التناقضات ( يجب علينا أن لا نفهم حتى نحافظ على انفسنا ص 312)… وينكشف النفاق دائماً ( أتذكرُ كيف كان جباناً وكان يتملّق لنا .. هذا عصر الجبناء ص 306) , نهب المستشفى من قبل موظفيها بعد السقوط الذين يعذرون انفسهم لانها ( حصتنا من النفط ) كما كانت ( حصتي من بئر النفط ص 220) قبل السقوط . جوهر الامر هو غريزة الشهوة للسلطة والتي عبرت عنها زوجة الرفيق الحزبي ( أبو فليح ) الذي انقلب الى دور معاكس بعد السقوط فتقول له ( اما شبعت من ماضيك ص 273) , ثم في لفّة أخرى تتم تصفية الرفيق من قبل نفس اللجنة التي تقرر ( ابناءه ينتمون الينا فيجب ان نشاركهم العزاء في أبيهم ص 337). الهوية الوطنية ضاعت ما بين تناقضات المنتج السياسي للازدواجيات النفس اجتماعية فنقرأ في الرواية ( لقد سرقوا وطنيتنا ص195) , وينقلنا كريم بين صور الفساد/ الاحتلال/ الاغتيالات (التصفيات) , ونزعة الانتقام التي تتصارع بين ( ما ذنبهم ) و( بشر القاتل بالقتل ), والاضطرار الى ( الهروب من الوطن ) , وصرخة المجنون في ( اخرجوا أيّها المحتلّون من بلادي ص 265). ولا ينسى كريم المرور على واحدة في تلافيف عقل من أعمق تناقضات العقل الجمعي , فتظهر نظرية المؤامرة ( الصهيونية ) في عدة لقطات وحتى مؤلف المسرحية نفسه يشكّ بانها مؤامرة من (اليهود) عليه .
يريد كريم في الصفحة الاخيرة ان يقنعنا باللوذ بـ ( الهوس ) في داء الهوس الاكتئابي فهو ( بهجة مذهلة تعبق مشوشة مسعورة في تلافيف عقل يهاجر بعيداً يحتمي بكآبة هائمة ) , أنه ( الضحكة المشلولة تمرّدت اخيراً على مستوى العار تكيفت تناضل من أجل البقاء…) , ويكشف كريم سرّه هذا في الصفحة الاخيرة بما يخفّف خوفي عليه من رغبة الانتحار, فثنايا الرواية في كل دورة للتلافيف تحمل اعراض اكتئابية المتجذرة في كآبة وجودية ممتزجة بأعراض الصدمة النفسية أو بالأحرى الصدمات النفسية . ( خيانة في تلافيف العقل ) تتكامل مع قرينتها ( عنقود من الشيزوفرينا ) في توثيق للطب النفسي مستعرضاً من خلال أعراض مرضى المستشفى والخدمات المقدمة لهم . من اكثر الصور بؤساً هي وضع العلاج بالصدمة الكهربائية كما يظهر في صفحة 160. نقرأ في صفحة 337 وصفاً رائعاً بمأساويته لأعراض نفسية ذهانية وكذلك نقرأ في صفحة 338 كيفية تشكّل الوهم والتدهور في الحالة النفسية التي يسببها الوهم المرضي الذهاني , ونقرأ في صفحة 162 ما يمكن ان اسميه “أنشودة معاناة الفصام” (عشرون عام , انا والفصام , كلانا يتبع الآخر, نعيش في بغض ووئام……!! . ) . كما تظهر الكآبة في أقوى صورها عندما ننتبه الى أن الرواية هي بثلاثة فصول ذو شتاء طويل فقط ولا يوجد فصل ربيع.
الصدمات النفسية تدور الى لفّة على حرب الكويت وحادث قصف المستشفى بصاروخ وظهور الشخصية المتفلسفة للمريض المجهول الاسم ذو اضطراب الشخصيات المتعددة فيظهر بأسم سقراط “والمعروف بأبو سقراط في أتحاد الادباء” , ونتعرف الى أهم أعراض اضطراب الصدمة النفسية إذ يتكلم ( سقراط ) ومن بين ما يقول في صفحة 225 ( في أعماقي تنام ذكريات الماضي ). لا يعلم القارئ انه كان يقرأ فصولاً لمسرحية حتى ننتقل في صفحة 231 الى الصدمة الاكبر مع بدأ الفصل الاخير, فيبدأ كريم رحلته في فصل الشتاء الطويل بالقول ( ليبكِي العالم , أجمل اناشيده , حين يهزمه العار…) . يقوم كريم بالرحلة الاكبر من التلافيف بأستخدام تقنية العلاج المسرحي في التأهيل النفسي لغرض الخيانة.
يثبت لنا كريم في تلافيفه أن الذات هي كرة صوف ملفوفة من مجموعة خيانات الأنا لتشابكات الروح والعقل والجسد والواقعة بين مطرقة وسندان المكونين الاخرين للذات الغريزة والأنا العليا . يسعى انسان كريم الى تحقيق الذات المثالية في سماء يتعانق فيها الشبق مع الجمال والبراءة , ولكن هيهات ( لماذا يكون الزمن بخيلاً علينا في لحظات السعادة ). المثال هو ان نتمكن من ( الدخول والخروج بحرية ), ويمكن ان نصل لذلك ( متى ما أختلّ التوازن , لابد من قيام ثورة , ثورة تقضي على الجذور القديمة , وتزرع بدلاً منها اشجار مثمرة ) . الخيانة هي في الاهمال الكلكامشي فيؤنبنا كريم بالقول ( لماذا بقيتم تحت رحمتي وتنتظرون الخلاص من غيري ص 367) . الحياة هي المسرحية ولكن عبثية القدر الرافض لها كريم تؤدي الى ان ( ستنهار المسرحية وتتبعثر الأدوار… أي لعبة .؟… غير متفق على المسرحية !) , ( ص 233 لقد زجّ بنا في هذه المسرحية ص 240 ماذا يخبئ لنا هذا المخرج ) . المعاناة الجوهرية للكاتب/ مؤلف/ مخرج المسرحية هي الصدمة النفسية الكبرى التي تسببها الأزمة الوجودية (ص 246 هل بإمكان الموت؟ ), مجموعة تساؤلات ( ص 150 ما هي الحقيقة…. ص 204 من جاء بهذه الكرة , ومن الذي رماها في هذا الفراغ الرهيب , هل جاءت من اللاشئ .؟؟؟؟) . مع اليأس الوجودي ( كل شيء سيتبدّد كفقاعة ) يتصاعد الغضب فيقول في صفحة 245 ( تباً لك من قدر ترسم لنا مصائرنا رغماً عنا , وتباً لك من عالم مجهول يسلبنا الارادة.!! ) . مؤلف المسرحية حاذق وحازم ( هو حكيم ) ولكن في النهاية يسائلونه ( خلف الكواليس جرت التعديلات ) حتى يشكّ ويُسائل هو نفسه كذلك .
كريم يعطي , في عزف متبادل مع الخيانة التشاؤمية , ضوء الامل في نهاية نفق العبثية , ويعطي رأيه على لسان سقراط الشماعية (ص 214 عليك أن تجد نفسك… ). تقديس الجمال والحب هو الثابت الوحيد في كل انحاء التلافيف ( ص 336 لقد نَمَتْ هذه الازهار الجميلة وسط مستنقع للمياه الثقيلة ) . الدعوة للثورة من أجل الانسانية تكاد ان تكون المقدس الثاني , إذ يناقش كريم في ص 319 علاقة البيئة بالشخصية والمجموع بالفرد ويبشرّ بالثورة على الجهل والسماح للعقل بممارسة حريته كاملة لتكون الانا العليا مرتبطة بالقيم الانسانية الحقيقية وليس القطيع . نقرأ في ص 329 ( إن الانسان بقيمة ما يُقدّم من أفعال انسانية تعود على الجميع بالخير, وان يحترم الانسان أخاه الانسان , واننا جميعا لنا رب واحد هو الذي خلقنا ) وهو بذلك يتناغم مع مقولة الامام علي أبن ابي طالب عليه السلام ” فإنهم إما أخاً لك في الدين أو نظير لك في الخلق”. بناء اجتماعي يقوم على القيم الانسانية بحاجة لعقول مفكرة , فنقرأ هذه الدعوة للعقلانية في ص 291 على لسان طبيب ( دعنا نعيد البناء ) , وكذلك نقرأ مفهوم التعايش الانساني في عدة لقطات من ابرزها ما جاء في ص364 فيعبر الطبيب النفسي اليهودي الدكتور جاك عبود شابي , وهو من مؤسسي الطب النفسي في العراق , عن المعنى الانساني المهني فيقول كريم على لسانه ( أنا ابن العراق والبصرة… ليس مهماً عندي ابن مَنْ أكون , ولا مِنْ أيّ ديانة سأكون , المهم لديّ ماذا استطيع أن اقدم للإنسان …). فماذا ستخون يا عزيزي القارئ لتحيا بحرية العقل وقيم الانسانية .؟؟….!! .
د باهر بطي
طبيب أختصاصي أمراض نفسية
بورتلاند, أوريكون, الولايات المتحدة