11 أبريل، 2024 6:21 ص
Search
Close this search box.

أنور الغساني يكتب إلى مهدي محمد علي عن بائعة التمر وخبز البيوت    

Facebook
Twitter
LinkedIn

 صباح يوم الثلاثاء الموافق (22 / 4 /1980 ) ذهبت إلى منزل المرحوم كاظم محمد علي شقيق الشاعر مهدي محمد علي الهارب من بطش النظام نهاية عام 1978 برفقة الشاعر عبد الكريم كاصد إلى الكويت ،عبر بادية الجنوب العراقي في رحلة قاسية مريرة امتدت ثمانية أيام ، ثم انتقالهما، إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والاستقرار في عدن، والعمل في الصحف والمجلات الثقافية هناك. إذ عمل عبد الكريم كاصد في مجلة “الثقافة الجديدة” اليمنية، ومهدي في جريـــدة (الثوري) جريدة ” الحزب الاشتراكي اليمني” وشارك كصحفي (يمــاني) في مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي المنـــعقد في العـــاصمة هافانا.خلال زيارته إلى البصرة قررنا ، هو والزميل جميل الشبيبي وأنا، أن نذهب ، ليلاً، مشياً من العشار إلى (حي الزهراء) ونستمع إليه يتحدث هو فقط ، عن ما جرى له بعد افتراقنا كل هذه السنوات. فتحدث ضمن ما تحدث عن متابعات حصلت له من قبل بعض أعضاء وفد (حزب البعث) الذي حضر إلى هافانا وكان برئاسة (طارق عزيز) ، ومعهم بعض الصحفيين العراقيين ، ويرافقهم عدد من منتسبي (جهاز المخابرات العامة) بصفة (صحفيين)، وكانوا يسكنون الفندق المخصص للصحفيين الأجانب، وعدم قناعة أحدهم بكونه (يَمَانياً) وذكر له في صالة الفندق بوضوح:” أنه يعتقد هذا من ملامحه ولكنته ” ، وظل يلاحقه بكثرة وبمكر شديد لكشف هويته الفعلية، ومحاولته الدخول معه في مساومات ما بالترافق مع التهديد المبطن تارةً والعلني تارةً أخرى ، مما دعاه للاتصال بوفد “الحزب الاشتراكي اليمني”  وإبلاغهم بهذا الشأن، وطرح عليهم عودته لـ(عدن) أو نقل سكنه من هذا الفندق إلى مكان آخر، وقد تبنى هذا الموضوع الشهيد”عبد الفتاح إسماعيل” شخصياً ، بصفته رئيساً للوفد ، بعد إعلامه بهذا الأمر، وأسكنه سريعاً في جناحه،الرئاسي، المخصص له، تحاشياً لما قد يحصل لـ(مهدي) جراء ذلك.كما ذكر (مهدي) أن اتحاد وأدباء وكتاب كوبا، وبعد اطلاعهم على الموضوع ومعرفتهم بهوية مهدي الفعلية وبأنه شاعراً عراقياً و هارباً من وطنه، سعوا لتمديد زيارته لكوبا لمدة خمسة عشر يوماً ،بعد انتهاء المؤتمر، وأنهم قاموا بإجراء جولات  له في المراكز الأدبية و الثقافية ، والتعريف به في بعض المدن الكوبية، وعبر هافانا سافر إلى موسكو. كانت زيارتي في ذلك اليوم تلبية لدعوة المرحوم كاظم لي خلال مروره عليّ في مقر عملي، وشكواه من مضايقات كثيرة بات يتعرّض لها أثناء عمله في دكّانه الواقع في سوق حنا الشيخ الجديد بالعشار، وبلغت، تلك المضايقات، حدّ حجزه يوماً كاملاً والتحقيق معه بشأن شقيقه مهدي في مديريّة أمن البصرة. طلب مني كاظم أن أزوره في بيته وان ادخل غرفة مهدي التي تقع في الطابق العلوي بمسكنه في منطقة”حي الزهراء”، معرباً عن خشيته من أن ما يعود لمهدي من وثائق خاصة وصور ومخطوطات شعرية ورسائل تخصه،سيتم مصادرتها وسيوقعه في مأزق مع رجال الأمن الذين توقع، أن يباغتوه في منزله للإغارة على غرفة مهدي والاستيلاء على ما فيها لأنه في  آخر تحقيق أجروه معه اكتشف، في أسئلتهم عن مهدي وكيفيّة وصوله برفقة كاصد إلى عدن، ومن قام بتسهيل هربهما إليها، إشارات دالة على نيّة مبيّتة لإغارتهم على منزله. وذكر لي أنه اخبرهم بأن مهدي لم يكن يسكن معه ، ولا علاقة له بذلك ولا يعرف عنهما شيئاً ما، واكتفى بالادعاء بأنه رجل ( أميّ) ولا يجيد القراءة والكتابة ، وهما من الشعراء والمثقفين المعروفين. وهكذا ما أن زرتُ كاظماً ودخلت غرفة مهدي المهجورة والتي يغطيها الغبار، حتى رحتُ أجمع في صندوق كلّ ما يعود إليه من حوائج شخصية وثقافية ومنها مخطوطته الشعرية الأولى (سيناريو أولي للحب) وكل صوره الشخصية ورسومه ومسودات قصائد كثيرة له ورسائل خاصة جداً لا مجال للكشف عنها ومحتوياتها نهائياً. هكذا أمضيت نهار ذلك اليوم والى الليل أنقب في غرفته ومكتبته لأجرّدها من أيّ أثر له بما يسند أقوال شقيقه أمام المحققين: في أن مهدي لا يسكن معه. ثم اتفقنا ، على أن ينقل(كاظم) سريعاً بعد ذلك مكتبة مهدي وما بقي من ملابسه وأغراضه الخاصة، إلى مكان آخر لتصبح غرفته خاليةً من أي أثر له ، وتحويلها إلى مخزن للمسكن من خلال وضع بعض المواد البيتية والمستهلكة فيها.عند تفتيش مسكن (كاظم)، من قبل مديرية أمن البصرة، وهو ما حصل بعد فترة وجيزة ، لم يتم العثور على شيء ما يدل على أن مهدي كان يسكن مع  شقيقه. بقي صندوق مهدي معي منذ ذلك اليوم انقله إلى أي مسكن انتقل إليه. بعد سقوط النظام وفي شتاء 2005 زار مهدي البصرة وكانت زيارته الأولى منذ نهاية 1978 والأخيرة كذلك. التقيته مساءً بحميمة في مقهى أدباء البصرة ثم استصحبته معي إلى بيتي، لنسهر سويةً، كما كنا سابقاً ، و تسليمه ما لدي من ودائع تعود له. وكم كان مهدي فرحاً بها و مستغرباً جداً من احتفاظي بها طوال هذه المدة من دون أن أفرط بها. تسلّم مهدي الصندوق وفيه كل ما عائد له في ضوء الفانوس إذ لم تكن ثمة كهرباء، وعندما التقيته في اليوم الثاني صباحاً للذهاب إلى(مقر الحزب الشيوعي) في البصرة ، وإلى ما تبقى من آثار مقهى (الدكّة) التي أزيلت من الوجود تماماً، وأماكن لقاءاتنا السابقة، والاطلاع على (خراب.. جنة بستانه) أبديت رغبتي في معرفة هوايات ابنته الوحيدة (أطياف) لاشتري لها هدية بصرية مناسبة فذكر لي : “ما سأحمله لها مما احتفظت به من مخلفاتي ومخطوطاتي ورسوماتي وصوري الكثيرة المتنوعة  ومراسلاتي وأسراري الشخصية طوال هذه المدة هو أجمل هدية ستحصل عليها أطياف”. وأنا ابحث، حديثاً، في أوراق خاصة قديمة لي عثرتُ على بطاقة بريدية ( بوست كارت) أرسلها الشاعر والقاص والناقد الراحل ( أنور الغساني) من برلين بوساطة البريد بتاريخ 24 /12 /73 إلى (مهدي) على عنوان شقيقه وتحمل صورة الشاعر الروسي  الكسندر بوشكين. بعد كل هذه السنوات ، وفي الذكرى الأولى لرحيل أخي الشاعر مهدي محمد علي، انقل نصاً ما جاء في البطاقة البريدية مع(صورة لها) :
الأخ مهدي محمد علي المحترم
خياطة كاظم محمد علي
سوق حنا الشيخ الجديد- عشار
البصرة
الجمهورية العراقية
REPLBLiK
IRAK
برلين، عشية عيد الميلاد 24 .12 .73
عزيزي مهدي. شكراً على البطاقة. رسالتك قد وصلتني في اوائل ايلول. اعتذر جداً لعدم اجابتيّ حتى الآن. سأكتب لك رسالة مفصلة. كنت منشغلاً بالانتقال من لا يبزك إلى برلين, المباشرة بعملي في التدريس في كلية التضامن للصحافة.المباشرة بكتابة الدكتوراه …الخ. معذرة مرة اخرى انا متفق مع الأفكار التي طرحتها في رسالتك. فرحت برسالتك فقد تأكد لدي صدق حدسي حين كتبت عن قصائدك في الفكر الجديد. بالامكان القول بأن خطاً جديداً صحياً  للشعر العراقي في طور الظهور الآن. اظنك تعرف فاضل العزاوي؟.انه احد افضل أصدقائي. كان في برلين للتدريب لمدة ستة أشهر. كانت بيننا خلافات أساسية وقد توصلنا عن طريق المناقشات الطويلة إلى حلها. لقد تغير فاضل اثناء وجوده هنا واكتسب وضوحاً أكثر. إذا ذهبت إلى بغداد حاول أن تلتقي به. حتى نلتقي في  رسالتي المطولة التي سأكتبها قريباً تقبل تمنياتي بالعام الجديد راجياً لك التقدم والنجاح وللانسانية التقدمية في العراق والعالم مزيداً من النجاحات. مع تحياتي إلى كافة الزملاء, والى البصرة الرائعة التي أتذكرها في هذا المساء البارد.
أنور الغساني                                                                     
لقطات.. من مدينة تعانق ماء النهر*
1
إلى (الباص) يصعد أطفال بابل :
مثل الشياطين
مثل المساكين
لا يدفعون النقود 
ولكنهم يملأون  مؤخرة ( الباص)
لا يدفعون النقود
وهم يصعدون معاً
يهبطون معاً
يحتمون ببعضهم
مثل الشياطين
مثل المساكين
لا يدفعون النقود !!.
2
وفي ذات ظهيرة    
رأيت فتاة
على الأرض
تعرض للبيع تمراً رديئاً
ووجهاً جميلاً
…..
وقفت حيالَ الفتاة الجميلة منبهراً
كنت أرغب أن اشتري التمر
لكنني كنت ظمآن للوجه ..
. تلك الظهيرة
….
ومرت دقائق
فوجئت أن الفتاة اختفت !!.
3
ووسط المدينة
عشر من الفتيات الصغيرات
كل ضحى يفترشن الرصيف
يواجهن أكبر مكتبة في المدينة
يعرضن( خبز البيوت) بأطباقهن الصغيرةِ
….
هل ثَّمَّ ما يربط الخبز بالكتْبِ
” مَنْ يشتري الخبز؟ “- 
لم تكُ واحدةٌ ذات يومٍ رأت صفحة في كتابٍ
سوى صفحة الخبز والناسِ
.” مَنْ يشتري الخبز؟ “- 
….
كان غبار المشاة يلوّح أوجههن الصغيرةَ
يستلّ منهن ماء الحياة الجميلة
”  مَنْ يشتري الخبز؟ مَنْ ؟ “- 
” آه ، لو كنتُ في المدرسة ! ” –
….
وتعبرهن اللواتي يرحن إلى المدرسة
وتعبرهن اللواتي يعدن من المدرسة
ويمضين لا يلتفتن
وقد يلتفتن ويمضين
هل ثَمَّ ما يربط الخبز بالكتْبِ
” مَنْ يشتري الخبز ؟ “- 
مَنْ يلمس الخبز كي يفهم الكتب ؟!
مَنْ يقرأ الكتبَ كي يعرف الخبز؟!
….
“؟ مَنْ يشتري الخبز؟ مَنْ “- 
– ” آه  – صبحةُ – لو كنتُ في المدرسة ! “. /  بابل1973 ــ
* كتب “مهدي ” هذه القصائد حين كان مدرساً في مدينة الحلة.وقبله ساهم الشاعر عبد الكريم كاصد عبر قصائده التي كان ينشرها في الصفحة الثقافية لجريدة طريق الشعب بقصائد عدة له في كتابة ما سمي حينه بـ”القصيدة اليومية” ، وكذلك مصطفى عبد الله الذي نشر قصيدة( أولاد الحيانية) وخصها الشاعر الكبير سعدي يوسف بمقدمة محتفياً بها وبهذا التوجه الشعري الذي عده” جديداً ومؤثراً في الشعرية العراقية”، وقد استفزت قصيدة مصطفى كثير من قبل الجهات الثقافية- السلطوية، و تم مهاجمتها في البصرة، من قبل أدباء السلطة بقسوة وبغضاضة، منطلقين في أن هذا التوجه وكتابة هذا النوع من الشعر لا يرى في الراهن العراقي غير السلبيات فقط، ومَنْ يكتبه  يتنكر لمنجزات النظام(الكبيرة)، وكذلك الشاعر كاظم الحجاج والذي نشر قصائد في هذا المنحى.  قصائد (لقطات من مدينة تعانق النهر)، في هذا الاتجاه،وثمة قصائد أخرى لمهدي نشرها وكتب عنها عدد من الشعراء والنقاد، وشخص الناقد الغساني فيها ما ذكره  في رسالته إلى مهدي:”  بالإمكان القول بأن خطاً جديداً صحياً  للشعر العراقي في طور الظهور الآن”. في الذكرى الأولى لغياب ” مهدي محمد علي “نستطيع  أن نؤكد بأن جميع ما كتبه مهدي من قصائد في دواوينه المتعددة ” أن أشدّ ما يميّزها هو احتفاؤها باليوميّ في الحياة ، لا للتوقف عنده بل من أجل تجاوزه إلى نقيضه من حلم ،وطفولة، وأساطير”،  ومهدي كان في شعره يتناول بوضوح تفصيلات الواقع المعتادة، التي ربما لا تثير الناقد العجول والسلطوي بالذات ، لكن مهدي كان مأخوذاً بما يتجاوز هذه التفصيلات. ولم يمارس مهدي هذا بفطنته وقدراته الشعرية فقط ، بل بموقفه و بوعيه الفكري للواقع وتناقضاته، مدركاً انّه جزء من توجهات وحركة شعرية، بدأت بالتبلور والعطاء ، وهمها الانحياز إلى الضعفاء ، والأقل تمثيلاً في المجتمع، ومَنْ يعانون من النسيان و التجاهل ،  من دون حصر الشعر في إطارٍ ما، لأن تلك الحركة كما ذكر” عبد الكريم كاصد” في حواره المطول مع الشاعر والكاتب والمثقف المغربي اللامع عبد القادر الجموسي والذي صدر في كتاب بعنوان “الشاعر خارج النص/ حوار الفكر والشعر مع الحياة” : تلك الحركة كانت بلا إطار ما، لكنها من جهة أخرى كانت بعمق الواقع وتجدده الدائم وغناه وسعته ، حيث الجوهر عصيّ على الإمساك إن لم تسعفه ثقافة شعرية وخبرة حياتية عميقتان ، وموقف إنساني واضح ، ومؤكداً فيه على ما ذكره”فرناندو بيسوا”: كن شاعراً في كل في كل ما تفعله، مهما يكن بسيطاً وقليل الشأن. كن شاعراً خارج النص قبل أن تكون شاعراً فيه.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب