هنالك مثل شعبيّ وعالميّ يقول (إنّ المُفْلِّس في القافلة أمين)، أي أنّ مَنْ لا يملك الأموال المتنوّعة آمن على نفسه من الغدر والاغتيال والسرقة وحتّى من الطعون النفسيّةوالمعنويّة أينما حلّ وارتحل!
واَلْإِفْلَاسِ أنواع كثيرة، وأبرزها اَلْإِفْلَاسِ الماليّ الذي يُصيب بعض الناس ويجعلهم في حالة عوز ماليّ كبيرة،وبالذات في عالم التجارة.
والنوع الآخر من اَلْإِفْلَاسِ يتمثّل باَلْإِفْلَاسِ الأخلاقيّ، الذي يعني تراخي بعض الناس عن القيم المجتمعيّة وعدم الاهتمام بها، والابتعاد عن أغلب المُتعارف عليه من أخلاق وأعراف إنسانيّة نقيّة، وبالمحصّلة يَجد الإنسانالمُفْلِّس أخلاقيّا نفسه خارج المنظومة الصالحة!
ويبدو أنّ اَلْإِفْلَاسِ في عالمنا اليوم لم يَعدّ مختصّا بالأموال والتجارات والأخلاق، بل دخل في عالم السياسة بشكل كبير ومعلن، ولهذا وجدنا خللا كبيرا في تعاملغالبيّة السياسيّين مع الخصوم السياسيّين أو عموم معاناة المواطنين!
وغالبيّة المُفْلِّسين حينما يقعون في ضائقة ماليّة يلوذون بالصبر والتحمل، وربّما، طلبوا العفو من الدائنين، لأنّهم يعلمون بأنّهم وقعوا في خانة الضعفاء، ولكن يبدو أنّ الأمور مختلفة تماما بعالم السياسة العراقيّة، حيث نجد أنّ المُفْلِّسين سياسيّا يصولون ويجولون وكأنّهم هم كبار رجال إدارة الدولة (التجار)،وهذا التناقض لا يُمكن تقبّله أو حتّى تفسيره بسهولة!
وتُعدّ خلطات دنيا السياسة في العراق من أغرب خلطات السياسة العالميّة، فهي خليط بين الحزبيّة واللا حزبيّة، الاستقلال والتحزّب، والديمقراطيّة والدكتاتوريّة،والحكومة الدينيّة (الثيوقراطيّة) والانحلاليّة وغيرها من الخلطات الفكريّة والعقائديّة السلميّة والمسلّحة والمختلطة ما بين السلم والسلاح!
واَلْإِفْلَاسِ السياسيّ في العراق اليوم نوعان: الأوّل يتمثّل بالسياسيّ المالك للمنصب والمال والجاه السياسيّ ولكنّه مُتفرّد بالملعب ولا يقبل الآخر رغم أنّ خطاباته الإعلاميّةمليئة بالأنوار الديمقراطيّة والأضواء الرقيقة الورديّة لكنّواقع الحال مختلف تماما، وهو دكتاتور بكلّ ما تعنيه الكلمة من معان سقيمة ومظلمة ومرعبة!
وهذا السياسيّ المُفْلِّس يستخدم أدواته العنيفة(والقانونيّة) والحزبيّة لحصار ومعاقبة مَنْ لا يؤيّده أو لا يقبل بسياساته الهمجيّة!
ومِنْ بين هؤلاء مَن يملك حاشية فاسدة لا تُنفّذ أوامره في ترتيب أحوال وظروف المواطنين الذين يقصدونه، وهو يَعلم بأنّه يكذب بوعوده، ومتأكّد من حاشيته أنّها لا تُنفّذ ما يأمرهم به، وبالتالي هم عبارة عن تجمّعات (سياسيّة) قائمة على الكذب والخداع وتخدير المواطنين المتضرّرين من الواقع السقيم!
والنوع الثاني من اَلْإِفْلَاسِ السياسيّ يتمثّل بخلوّ يَد السياسيّ السابق من مناصب ومكاسب وأموال كانت لوقت قريب في متناول يده ويتصرّف بها بلا ضوابط أخلاقيّة أو قانونيّة واضحة!
وهذا النوع من اَلْإِفْلَاسِ السياسيّ لاحظناه في شخصيّات كانت تصول وتجول بعد العام 2003 وصارت اليوم مُجرّد أرقام في الملعب السياسيّ، فلا هي ضمن التشكيلة الأساسيّة للفرق السياسيّة، ولا هي على دكّة السياسيّين الاحتياط، ولا حتّى احترفت التدريبالسياسيّ، ومع ذلك فهي مُصرّة على البقاء داخل الملعب الرسميّ وبعناد مذهل لا يمكن تفسيره إلا كونه محاولات يائسة للبقاء تحت الأضواء الإعلاميّة واحتماليّة الفوز بمنصب ما في يوم من الأيّام!
أما فيما يتعلق باَلْإِفْلَاسِ الماليّ للدولة العراقيّة فقد سبق أن كُشِفَت كوارث ومخالفات قانونيّة ولم يتحرّك معها أحد وكأنّ الأمور سائرة في مسالك بناء الدولة وليس خرابها!
وكشف تقرير صادر عن المركز العالميّ للدراسات التنمويّة في لندن بداية أيلول/ سبتمبر 2016 عن اختفاء (120) مليار دولار من فوائض موازنات العراق الماليّة خلال فترة تولّي نوري المالكي رئاسة الوزراء ما بين 2006 – 2014.
وأنّ حيدر العبادي رئيس الوزراء حينها قد تسلّم من سلفه المالكي خزينة شبه فارغة، ولا يوجد فيها أكثر من (700) مليون دولار، وبالمقابل انتقد المالكي أداء العبادي وأكد يوم 31/5/2017 بأنه سلّم “ الخزينة باحتياط يبلغ (83) ملياراً، والآن بات (40) ملياراً، وهذا خطر”!
وعاد العبادي ليؤكّد يوم 13/2/2018 بأنّه استلم الحكم وكانت خزينة الدولة فارغة!
فأين الحقيقة، وأين ذهبت الـ(120) مليار دولار التيفُقِدَت بين ليلة وضحاها، ثمّ لماذا لم يُحقّق مع المالكي والعبادي لمعرفة مصير المليارات المفقودة؟
ويعتبر الخلل في بناء الدولة، وبالذات الدوائر الصحّيّة،مِن أبرز صور اَلْإِفْلَاسِ السياسيّ، وفي الثلاثين من كانون الثاني/ يناير 2023 كشف (المركز العراقيّالاقتصاديّ السياسيّ) أنّ العراقيّين أنفقوا (700)مليون دولار على العلاج بالهند في السنوات الثلاث الأخيرة، وأنّ أعدادهم الكلّيّة بلغت (57.275) ألفاً بحسب أخر إحصائيّة رسميّة!
فكيف سيكون الواقع الصحّيّ والخدميّ لو استُثْمِرتهذه الـ (120) مليار دولار (المفقودة) بالمستشفيات الحكوميّة التي تعاني من خلل واضح في خدماتها؟
إنّ أخطر أنواع اَلْإِفْلَاسِ هو اَلْإِفْلَاسِ الإعلاميّ، وهنالك نسبة واضحة من الإعلاميّين، وبالذات مِن مُقدّمي البرامج السياسيّة، عبارة عن تجّار ملفّات يهدّدونويبتزّون بها السياسيّين الفاسدين، وهذا هبوط وسقوط لا يُمكن تفسيره إلا كونه استغلال للمرحلة غير الصحّيّة القائمة في بلاد أفْلست في جوانب عديدة!
أنقذوا العراق من اَلْإِفْلَاسِ السياسيّ فهو المِعوَل الأخطر على مستقبل الوطن والناس!
dr_jasemj67@